في مثل هذا اليوم 17 نوفمبر1808م..
قوات الإنكشارية العثمانية تثور ضد السلطان محمود الثاني بعد محاولته القضاء عليها.
السلطان محمود خان الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغل. (20 يوليو 1785 – 1 يوليو 1839) كان السلطان الثلاثون للدولة العثمانية، وهو ابن السلطان عبد الحميد الأول شهد عصرة خطوات إصلاح واسعة، وحاول أن يوقظ الدولة العثمانية، وأن يدفعها إلى ما تستحقه من مكانة وتقدير.
تقلد السلطان محمود الثاني مقاليد الخلافة العثمانية سنة 1808م وهو في الثالثة والعشرين من عمره، واستقر عزمه على أن يمضي في طريق الإصلاح الذي سلكه بعض أسلافه من الخلفاء العثمانيين، ورأى أن يبدأ بالإصلاح الحربي، فكلف الصدر الأعظم «مصطفى البيرقدار» بتنظيم الانكشارية وإصلاح أحوالهم، وإجبارهم على اتباع التنظيمات القديمة الموضوعة منذ عهد السلطان سليمان القانوني وأُهملت شيئا فشيئا.
القضاء على الانكشارية:
حاول الصدر الأعظم أن يقوم بالمهمة التي كلفه بها السلطان محمود الثاني؛ فقوبل باعتراض من الانكشارية، وثاروا في العاصمة ثورة عارمة في (رمضان 1223 هـ = 1808م) وحاولوا إرجاع السلطان السابق «مصطفى الرابع» ليكون ألعوبة في أيديهم، وأضرموا النيران في السرايا الحكومية، ومات الصدر الأعظم في هذه الفتنة محترقا وهو يحاول أن يقضي على تلك الفتنة، واضطر السلطان أن يخضع لهم بعد أن أضرموا النار في العاصمة، وكادت النيران تقضي عليها، مؤجلا فكرة التخلّص منهم إلى وقت آخر.
وكان السلطان يرى أن اشتداد نفوذ الانكشارية قد حطم جهود كل من يحاول الإصلاح من السلاطين السابقين، وأن سرّ نجاح محمد علي باشا في حركته الإصلاحية أنه بدأ بإزالة عقبة مشابهة وهي المماليك فتخلص منهم في الحادثة المعروفة باسم «مذبحة القلعة»، وقد تخلص السلطان محمود الثاني من الانكشارية تماما في سنة (1240 هـ = 1826م).
الأخذ بالنظم العسكرية الحديثة
وجّه السلطان محمود الثاني عنايته إلى بناء فرق عسكرية تأخذ بالنظم الحديثة؛ فأنشأ قوة من سلاح المدفعية على يد ضباط أوروبيين، وكان نجاح هذه القوة في تعلم الفنون العسكرية الحديثة حافزا له في تنظيم قوة أخرى من المشاة على نفس الطريقة. بدأ السلطان يعمل على إيجاد رأي عام يؤيد ما يتجه إليه من إصلاحات، بإقامة الحفلات الكبرى لأي إنجاز تقوم به قواته، وباستصدار فتوى من كبار مشايخ الدولة بوجوب تعليم فنون الحرب، وضرورة إصلاح الجندية، وإدخال النظام العسكري الحديث في فرق الإنكشارية التي لا يمكنها بما هي عليه الآن الوقوف أمام الجيوش الأوروبية، وأحيا السلطان محمود الثاني ما أقامه مصطفى الثالث من مدارس للطوبجية والبحرية والهندسة، وأنشأ مدرسة حربية لتخريج الضباط على غرار المدارس الحربية الأوروبية، ومدارس لتعليم الجند وتدريبهم على نَسَق مدارس الجيش في إنجلترا.
أخذ السلطان بنظام التجنيد الإجباري لأبناء المسلمين، وجعل مدة التجنيد عشر سنوات، وأرسل الضباط في بعثات للخارج على نطاق واسع، واستدعى عددا من الضباط من بروسيا لتدريب القوات الجديدة. اتجه السلطان إلى إصلاح البحرية، فأعاد فتح مدرسة البحرية التي كان قد أنشأها السلطان مصطفى الثالث، وشرع في بناء ثكنات خاصة لرجال البحرية الذين سُموا أحيانا بـ«جنود البحر»، وبنى دارا جديدة للمدرسة البحرية عُنِي بتلاميذها ومدرسيها، وزودها بالأدوات والمكتبة والأجهزة، ثم بنى مدرسة بحرية أخرى قصرها على الطلاب المتفوقين من المدرسة القديمة.
من أهم إصلاحات محمود الثاني كان العناية بالبحرية العثمانية وإعادة بنائها لا سيما بعد الهزيمة القاسية للأسطول العثماني في معركة نافارين أمام الأساطيل الأوروبية المتحالفة، حيث أدخل أول سفينة حربية تعمل بالبخار في عام 1828م كما أمر نخبة مهندسيه ببناء سفينة المحمودية (بالتركية: Mahmudiye) ذات الـ128 مدفع وبقيت هذه السفينة الأضخم في العالم لسنوات عديدة، كما أعاد فتح المدرسة الهندسية البحرية التي كانت قد أنشئت في قبل في سنة (1208 هـ = 1793م)، وكلما انتهى العمل في بناء قطعة بحرية أُنزلت للبحر في احتفال عظيم، وكان السلطان يُسرّ لإنشاء السفن الجديدة سرورا عظيما ويخلع على طاقمها هباته وهداياه.
إصلاح التعليم
عُنِي محمود الثاني بتنظيم التعليم حيث أنشأ المدارس الابتدائية المسماة «صبيان مكتبي» لتعليم الهجاء التركي وقراءة القرآن، ومبادئ اللغة العربية، والمدارس الثانوية «مكتب رشدية» لتعليم الرياضيات والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب المدارس الملحقة بالمساجد، كما أنشئت مدارس تُعِدّ طلابها للالتحاق بمدارس البحرية والطب والزراعة والهندسة والمدفعية، وكانت المدرسة الإعدادية لمدرسة الطب ملحقة بها.
اعتنى محمود الثاني بمدرسة تعليم اللغات التي أنشئت في عصر السلطان مصطفى الرابع لتخريج المترجمين، وكان يلتحق خريجو هذه المدارس بالسفارات المختلفة. أكثر محمود الثاني من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس لتحصيل الفنون والعلوم الحديثة، وكلف سفيره في باريس «أحمد باشا» بمرافقتهم وكتابة تقارير عنهم.
ومنها أيضا اهتمامه بالمكتبات حيث قام بتجديد المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة.
إصلاحات أخرى
حاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة المركزية بالطريقة الأوروبية، فوضع الأوقاف تحت إشرافه وألغى الأوقاف الصغيرة وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى أول إحصاء للأراضي الزراعية التركية في العصر الحديث، وأدخل تحسينات على شبكة المواصلات، وأنشأ طرقا جديدة وأدخل البرق، وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة.
شهد عصر السلطان محمود نشاطا في حركة التعمير، وصيانة المرافق القديمة التي أصابها الإهمال، فأنشأ في سنة (1241 هـ = 1825م) «جامع نصرت» أي جامع النصر في إستانبول، وأعاد تعمير مسجد «آيا صوفيا» وغيره من مساجد العاصمة.
عمل حتى على إصلاح الملابس، حيث استحدث لباسا يشبه اللباس الأوروبي واستبدل العمامة بالطربوش الذي كان يرتديه الرعايا العثمانيون في ولايات الأفلاق والبغدان (قبعة رومانية)، وأجبر موظفي الحكومة المدنيين والعسكريين على ارتداء اللباس الجديد في أماكن عملهم.
قام بزيارة الولايات الأوروبية للوقوف على حالها وأخذ على عاتقه تحديث الدولة العلية لتجاري الدول الكبرى من جديد.
وفاة السلطان
امتاز السلطان محمود الثاني بالتوجه للغرب العلماني، أنهكته الحروب مع روسيا، وشغلته حروبه مع محمد علي باشا والي مصر الطَموح الذي تطلع إلى ضم بلاد الشام إلى ولايته في مصر، ووقعت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في سنة (1245 هـ – 1830م).
تعرض السلطان للإصابة بعدوى السل، ولما اشتد به المرض نُقل إلى إحدى ضواحي إسطنبول للاستشفاء بهوائها النقي، ثم لم يلبث أن عاجلته المنية وتوفي في (19 ربيع الآخر 1255 هـ = 2 يوليو 1839م) وهو في الرابعة والخمسين من العمر وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد.
الانكشارية من التركية العثمانية يڭيچرى (وتعني: «الجنود الجدد»)(بالتركية: Yeniçeri)، هي قوات مشاة وفرسان من النخبة بالجيش العثماني، وكان جيش الانكشارية جيش الدولة الرسمي حتى إلغائه في عام 1826م على يد السلطان العثماني محمود الثاني. شكل الانكشارية الحرس الخاص للسلطان العثماني، تأسست قوات الانكشارية في عهد السلطان مراد الأول (1362-1389) وكان للانشكارية تنظيم خاص بهم، بثكناتهم العسكرية وشاراتهم ورتبهم وامتيازاتهم، وكانوا أقوى فرق الجيش العثماني وأكثرها نفوذاً. وكان أفراد الانكشارية من أسرى الحروب من الغلمان اليتامى الذين يتم فصلهم عن أصولهم، ويتم تربيتهم تربية إسلامية، على أن يكون السلطان والدهم الروحي، وأن تكون الحرب صنعتهم الوحيدة.
كانت الانكشارية تعد من أقوى الجيوش الأوربية والعالمية فعندما حاولت إسبانيا احتلال هولندا فطلب ملك هولندا وقتها المساعدة من السلطان سليمان القانوني فأرسل له أربعين بدلة من لباس الجيش الإنكشاري ليلبسها الجنود الهولنديون في المعركة وعندما شاهدها الأسبان ظنوا أن العثمانيين يحاربون بجانب الهولنديين فتوقفت اعتداءاتهم ثلاثين عاما.
بعد تولي السلطان محمود الثاني سلطنة الدولة العثمانية سنة 1808 أيد تطوير الجيش العثماني وضرورة تحديثه بجميع فرقه وأسلحته بما فيها الفيالق العسكرية، فحاول بالسياسة واللين إقناع الانكشارية بضرورة التطوير وإدخال النظم الحديثة في فرقهم، حتى تساير باقي فرق الجيش العثماني، لكنهم رفضوا عرضه.
فحاول أن يلزم الانكشارية بالنظام والانضباط العسكري، وملازمة ثكناتهم في أوقات السلم، وضرورة المواظبة على حضور التدريبات العسكرية، وتسليحهم بالأسلحة الحديثة، وعهد إلى مصطفى باشا البيرقدار بتنفيذ هذه الأوامر. غير أن هذه المحاولة لم تنجح وقاوموا رغبة السلطان وتحدوا أوامره، وقاموا بحركة تمرد واسعة وثورة جامحة كان من نتيجتها أن فقد حياته.
لم تنجح محاولة السلطان الأولى في فرض النظام الجديد على الانكشارية، وصبر على عنادهم، وإن كانت فكرة الإصلاح لم تزل تراوده، وازداد اقتناعًا بها بعد أن رأى انتصارات محمد علي الكبير المتتابعة، وما أحدثته النظم الجديدة والتسليح الحديث والتدريب المنظم في جيشه، وطال صبر السلطان ثمانية عشر عامًا حتى عزم مرة أخرى على ضرورة إصلاح نظام الانكشارية؛ فعقد اجتماعًا في (19 من شوال 1241 هـ=27 أيار/مايو 1826) في دار شيخ الإسلام، حضره قادة أسلحة الجيش بما فيهم كبار ضباط فيالق الانكشارية، ورجال الهيئة الدينية وكبار الموظفين، ونوقش في هذا الاجتماع ضرورة الأخذ بالنظم العسكرية الحديثة في الفيالق الانكشارية، ووافق المجتمعون على ذلك، وتلي مشروع بإعادة تنظيم القوات الانكشارية، وأصدر شيخ الإسلام فتوى بوجوب تنفيذ التعديلات الجديدة، ومعاقبة كل شخص تسول له نفسه الاعتراض عليها.
غير أن الانكشارية لم يلتزموا بما وافق عليه الحاضرون في هذا الاجتماع؛ فأعلنوا تمردهم وانطلقوا في شوارع إسطنبول يشعلون النار في مبانيها، ويهاجمون المنازل ويحطمون المحلات التجارية، وحين سمع السلطان بخبر هذا التمرد عزم على وأده بأي ثمن والقضاء على فيالق الانكشارية، فاستدعى السلطان عدة فرق عسكرية من بينها سلاح المدفعية الذي كان قد أعيد تنظيمه وتدريبه، ودعا السلطان الشعب إلى قتال الانكشارية.
وفي صباح يوم 9 من ذي القعدة 1241 هـ=15 حزيران/يونيو 1826 خرجت قوات السلطان إلى ميدان الخيل بإسطنبول وكانت تطل عليه ثكنات الانكشارية، وتحتشد فيه الفيالق الانكشارية المتمردة، ولم يمض وقت طويل حتى أحاط رجال المدفعية الميدان، وسلطوا مدافعهم على الانكشارية من كل الجهات، فحصدتهم، بعد أن عجزوا عن المقاومة، وسقط منهم ستة آلاف جندي انكشاري.
وفي اليوم الثاني من هذه المعركة التي سميت بـ«الواقعة الخيرية» أصدر السلطان محمود الثاني قرارًا بإلغاء الفيالق الانكشارية إلغاءً تامًا، شمل تنظيماتهم العسكرية وأسماء فيالقهم وشاراتهم، وانتهى بذلك تاريخ هذه الفرقة التي كانت في بدء أمرها شوكة في حلوق أعداء الدولة العثمانية.!!
Discussion about this post