قراءة نقدية مزدوجة:
“الرباعية بين معلمة وبدوية”
فقرة جمع بصيغة المفرد (مبدع /مشاكس/ ناقدة )
المبدع:حمد حاجي (تونس).
الرباعية:”معلمة”
المشاكس:عمر دغرير(تونس)
الرباعية:”وما زلت تلاحقها..”
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية المزدوجة : “الرباعية بين معلمة وبدوية”
أ- المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– على مستوى المضمون:
– الصدّ للحبيب.
– القفلة:مصير الحبيب
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي وصدّ الحبيبة المعلمة:
من الأقوال التي ألحقت بالنساء في موضوع الحب “أنهن يتمنّعن وهن راغبات”وقد يبالغن في التمنع الى درجة تجاهل الحبيب وازاء هذا التجاهل يزداد الحبيب تشبّثا بالحبيبة وتقرّبا منها وهي في المقابل تزداد عنادا وصدّا له.
هل المرأة الحبيبة التي اختارها المبدع حمد حاجي باعتبارها معلّمة ستكون بهذا المَلمَح المتمنّع والعنيد والمتجاهل؟أم لها ملمحُها الخاصّ بها؟؟
استهلّ الشاعر قصيدته باسم نكرة(معلّمة) في حالة اعراب مبتدأ.
ان المتعارف عليه انّ المبتدأ يكون معرفة اذ كيف يكون الاخبارعن أمر مجهول او نكرة؟
منذ البداية يضعُنا الشاعرأمام صعوبة لغوية لها دلالتها المعنوية في وصف المعلمة .
وبالتالي يضعنا الشاعر أمام اشكالية وهي البحث عن مسوّغات الابتداء بالاسم النكرة.
انّ من بين مسوّغات الابتداء بالاسم النكرة اذا كان هذا الاسم يفيد المدْح أو الذمّ.(1).
وبما أن المقام يقتضي مدح المعلمة فان الشاعراستخدم هذه الظاهرة اللغوية النادرة والاستثنائية والصعبة لتُوظف في مدْح هذه الحبيبة التي هي محبوبة من طرف أطفالها الى درجة خدمتها فهم يسارعون لحمل حقيبتها من يديها لتوفير الراحة لها فيقول المبدع :
معلمة ويسارع أطفالها يحملون حقيبتها من يديها..فيا ليتني
طفلها الأوحد.
كأني بالشاعر هنا يسعى أن يُهيئنا لصعوبة المعلمة واستثنائيتها ومن ناحية أخرى يحاول ان يُعلمنا ان هذه المرأة باعتبارها معلمة ستقدّم لهذا المتيّم بها دُروسا.
هنا تمنّى المتيّم بالمعلمة أو المغرم بها لو كان “طفلها الأوحد” حتى يحْتكر خدمتها لنفسه.
وهنا يقول “بيكهاردت” “ان الطفل الواحد هو القائد غالبا في المجموعات في فصول الدراسة”(2).
فهو لا يريد أن يضع الآخرون قيودا عليه وهو قادر على قيادة المجموعة”.
وهذا الطفل” الأوحد” سيكون مُدلّلا من طرف المعلمة وقد يصفه بقية الاطفال بالانانيّ لانه يحتكر خدمة المعلمة التي يتهافتون عليها هم الآخرون.
ان الشاعر استعمل حرف التمني”ليت” وهو يفيد طلب المستحيل كأنه يُعْلم أن حُلم هذا المغرم لن يتحقّق ولن يكون “طفلها الأوحد”.
لقد وصفها المبدع بالعناد المستمرّ والتجاهل المتواصل باستخدام صيغة المضارع الموفوع الذي يفيد الدوام والاستمرارية(تعاندني …وتتجاهلني… وتمرّ)
والعناد هو دليل على الاستقلالية وقوّة الشخصية التي تنشأ عند الشخص منذ سن الطفولة.
والعناد وسيلة لاستعراض القوة الشخصية وما تتطلّبه من قيم تتعلق بدحْر الآخر واعلان الانتصار عليه بتصلّبها وفرض رأيها عليه وعلى الآخرين بطريقة دكتاتورية.
هل المبدع يشي لنا بالعلاقة الدكتاتورية للمعلمة مع أطفالها بفصل الدراسة؟
قد لا أرجّح ذلك لعله يريد أن يُسطُّر على حزْمها وعزْمها وحسْمها للأمور وما يدعم ذلك حبّ الاطفال لها.
أما تجاهلها له فقد فسّره علماء النفس بثلاثة معاني أو تأويلات (3):
1- الازدراء:تعبّرفيه المرأة عن رفضها بالتجاهل.
2- التجاهل التكتيكي وهو الازدراء الذي يهدف الى تجميد علاقتها بالمغرم بها أو دفعه ببعض الكلمات اللطيفة الى الارتباط بها أكثر.انها تُرْبكُه وتجْعله غير قادر على الحكم على مشاعرها .
3- تجاهل العقوبة وهو نوع من الازدراء تمارسه المرأة على الرجل لايقاعه في السوء تُجاهها فتجعله يشعر بالذنب نحوها.
يمكن القول وحوصلة لما قال علماء النفس بأن تجاهل المرأة للرجل المعجب بها هو لتجْذبه أكثر فالرجل ينجذب للمرأة التي لا تطارده والتي لا تأخذ المبادرة فهو ينْجذب للمرأة التي لاتعيره اهتماما وتجعله يشعرأنه يسعى لقربها ويقوم بمجهود لجذبها اليه وهو أمر يُحبذه الطرفان.
فهل يمكن لهذه المعلمة أن تعلّمنا درسا في العفّة والتعفّف؟
ان هذا المتيّم بحبّ المعلمة قد مات” شهيدا” في سبيل حبها على حدّ قول نزار قباني حين قال المبدع:”كأن لمْ تر جثتي”
والجثة هي جسم الانسان الميّت.انها لم ترْحمه وقد مات في سبيل حبّها.
وهي تظلّ في تجاهلها له رغم أنه لم “يجْحد ما ليس ينْجحد” من حبّه لها.انه في هذا المعنى يتناصّ مع ايليا ابو ماضي في قوله:
ما جَحد الحُبّ غير جاهله// أيجْحدُ الشمس من له بصرُ؟
وهل أكثر من تجاهلها له من أنها تمحُو هواه بخطاها “كأنها سبورة كلّها غلطُ” وقامت بمحوها كاملة.ووجه الشبه يتجلى في عدم ترك الأثر كأنّ المبدع بهذه الصورة المجازية جعل المعلمة تريد أن تمحُو أثر هواه من الوجود..
.انها تدوس على هواه بخطاها أي بقدميها..
انها نهاية في التجاهل والصدّ له.
انها صورة لها دلالتها المعنوية كأن المبدع جعل المعلمة تُواجهه وتصدّه بوسائلها التعليمية(سبورة/تمحو/ غلط).
انها مُعجمية لغوية تعليمية لعل المبدع وظفها لابراز مدى تشبّث المعلمة بوسائلها التعليمية وتمسّكها بمهنتها .
هل يمكن ان يكون هذا درْسا آخر يتعلمُه أهل المهنة في مهنيّة المعلمة وعشقها لمهنتها؟
يختم الشاعر بقفلة لم نكن لنتوقّعها حين قال:
لها حاجبان تقول بهما(لا)
كأنهما: اليوم لا أسستطيع…غدا
لست أعتقدُ.
انه شيء من المرونة بالنسبة لما هي عليه من صعوبة وتجاهل له فهي تواصلتْ معه تواصلا غير لفظيّ والحواجب أول وسيلة تواصل اجتماعي.
لقد توصّل الباحثون البريطانيون الى” ان الحواجبُ لها أهمّية كبيرة في التطوّر البشري لان أسلافنا من خلالها تعلّموا كيفية التواصل الاجتماعي”(4) .
فهل نعتبر انّ هذه المعلمة قد علّمتنا درسا في التواصل الاجتماعي يتعلّق بالتواصل غير اللفظي؟
ان المعلمة لم تفتح لهذا الرجل المغرم باب قسمها بل فتحت له نافذة من نوافذ قسمها وقد تحفّظت في ذلك فيمكن القول بانها نافذة نصف مفتوحة ونصف مغلقة حين تواصلت معه تواصلا غير لفظي انه تواصل بالايماء كأنّ مهنتها الشاقة مهنة التعليم قد اسْتنزفت قواها
ولم تعدْ قادرة حتى على التواصل اللفظي بالكلام وكأني بالمبدع بقدر ما يشعر بتعبها بقدر ما يشعر بألم هذا المغرم حين جعلها تتواصل معه ولو بالايماء لتعبّر له عن عدم استجابتها له اليوم وعدم اعتقادها بالاستجابة اليه يوم غد (في المستقبل).
ان هذا المعنى يتناصّ مع ما قاله الشاعر الأموي عمر ابن أبي ربيعة في هند:
ليت هندا أنجزتنا ما تعدْ// وشفتْ أنفسنا ممّا نجدْ
كلما قلتُ متى ميعادنا//ضحكت هند وقالتْ بعد غد.
هل الشاعر أراد أن يسّطر على نموذج من المرأة المتمنعة وهي راغبة؟
هل هي معلمة قاسية على المتيّم بها؟
هل هي معلمة قاسية حتى على نفسها وتخنق مشاعرها وتكبتها؟
انها أسئلة تبقى مطروحة وقد تبقى مطروحة على المتلقّي للنظر في الجواب عنها.
والمشاكس عمر دغرير أحد المتلقين فهل سيتناغم مع المبدع حمد حاجي في صدّهذه المرأة المعلمة للمغرم بها؟
2- المشاكس عمر دغرير وصدّ البدوية :
باستخدام ضمير المخاطب المفرد يتوجّه المشاكس الى المبدع ليذكره بكل ما يفعله من أجل أن يظفر بحب هذه المرأة فيقول:
وما زلت تلاحقها وتقتفي أثر عطرها وتتغنّى بسحر حاجبيها
وتنشدُ…
ولعل المشاكس لا يخفي عنا سخريته من ناحية من المبدع واعجابه من ناحية أخرى بهذه المراة:
– سخريته من المبدع الذي يتكبّد العناء من أجل هذه المرأة .
– اعجابه هو الآخر بهذه المرأة بعطرها وبسحر حاجبيها..
انه الجمال الذي جعل المبدع يتغنى بها في أشعاره.
ان المشاكس لعب على المكان و على الشخصية فحوّل بذلك شخصية المعلمة بشخصية البدوية والمدْرسة بالهودج .
ان هذا التحوّل سيغير في مجرى الاحداث ليجعل المبدع يتحول من ملاحقة المعلمة بالمدرسة الى ملاحقة البدوية بالهودج فيقول المشاكس:
وكم زحفت خلف هودجها.. ولما بالكاد حاولت مسك ناقتها
صفعتك يد…
ان المشاكس استخدم معجمية من المحيط البدوي(هودج / ناقة..)
و”الهودج هو محمل يوضع على ظهر الحيوانات مثل الجمال..أشبه بالمركب فيه مقعد أو سرير مظلل عادة وقد يكون مغلقا بالكامل استخدم في الماضي عادة لحمل الاثرياء او للنساء أثناء السفر.صنع من خشب وظلل بالقماش..”(5).
ولئن كان صدّ المعلمة لهذا المتيّم بها في عُقر دارها(عملها) بالمدرسة فان هذه البدوية قد تمّ تسْفيرها لابعادها عنه لأن البدْو يرفضون التشبيب بالمرأة والتغني بجمالها في الأشعار كما فعل المبدع( وتتغنى …وتنشد..) لذلك صفعته يدٌ حين حاول مسك ناقتها .
وهنا يتناص المشاكس مع قصة أهل ليلى التي تشبب بها قيس بن الملوّح وحُرم منها الى الأبد وكذلك يتناصّ مع قصة قيس بن ذريح ولبنى.
وفي هذا الاطار كأني بالمشاكس يتعاطف من ناحية مع المبدع ومن ناحية أخرى مع البدوية :
– مع المبدع الذي لم يستطع أن يقضي وطرًا من هذه الحبيبة البدوية.
– مع الحبيبة البدوية التي لا حول ولاقوة لا الا بأهلها و بقبيلتها .
هذاما جعل المشاكس يتقمّص دور الناصح والمنبّه للمبدع للابتعاد عنها واعتبره
متماديا في غيّه وضلاله.يقول المشاكس:
وكم نبهتك أن تظلّ بعيدا فلا تقترب.فان تماديت في غيك
فهي تبتعد…
وأكثرمن ذلك فقد جعل ابتعادها عنه بيد أهلها الذين تأخذهم نعرة العصبية ككل البدو للدفاع عن “شرفهم”لالحاق الضرر به بطريقة لا يتوقعها أحد فيقول:
وقد تشكوك الى أهلها,وحولك يلتفون, ويكون مصيرك ما لن
يتوقعه أحد…
انها قفلة قد تلتقي مع قفلة المبدع شكلا وقد تختلف مضمونا:
يقول المبدع: “اليوم لا أستطيع..غدا لست أعتقد”
يقول المشاكس:”وقد تشكوك الى أهلها وحولك يلتفون ويكون مصيرك ما لن
يتوقعه أحد…”
– المشترك في القفلة هو صدّ لحبيبة للمبدع(سواء المعلمة او البدوية).
– المختلف في القفلة يكمن في المسؤول عن الصدّ.
وفي هذا الاطار ومن خلال الفجوات النصية سواء لدى المبدع او لدى المشاكس فان القارئ قد يتدخل ليثير قضية المرأة المثقفة والمرأة غير المثقفة فقد يعتبر ان المعلمة باعتبارها مثقفة فهي تملك زمام أمورها وهي المسؤولة عن تقرير مصيرها وقد يعتبر البدوية غير المثقفة لا تملك تقرير مصيرها بنفسها وصدّها للحبيب هو بيد أهلها وحتى وان كانت البدوية مثقفة فنعرة القبلية تخمد صوتها.
وبالتالي فقد يعتبر القارئ ان المعلمة فاعلة فهي التي تصدّ المبدع ايمانا منها بمبادئها ومسؤوليتها المهنية ومنح الاولوية لرسالتها التربوية حتى على حساب
مشاعرها التي خنقتها وكبتتها.
وقد يعتبر القارئ ان هذه البدوية مفعول بها في صدّ المبدع(الحبيب) ولو على حساب مشاعرها قناعة منها بسلطة القبيلة التي تسلبها حق أخذ القرار حتى في مشاعرها.
وبالتالى قد تلتقي المعلمة مع البدوية في صدّ الحبيب وكبْت مشاعرها لكن الفرق ان المعلمة مسؤولة عن هذا الصدّ والبدوية غير مسؤولة.
وخلاصة القول ان الشاعر حمد حاجي قدّم لنا نموذجا لمعلمة قد تكون قاسية على المغرم بها عند تجاهلها لعشقه لها وهي في نفس الوقت لم تكن متمنّعة وهي راغبة بل كانت قاسية حتى على نفسها حين حرّمت على نفسها الحبّ للمتيّم بها وخنقت مشاعرها ولم تعشق غير مهنتها وأطفالها …
ان موقفها ازاء المغرم بها فيه شيء من الصلابة والقسوة…لعلّ الشاعر حمد حاجي أراد أن يرسم لنا صورة للمعلمة المتعفّفة والمعلمة المُخلصة لعملها والمتيّمة بأطفالها والعاشقة لمهنتها والوفية لمبادئها حتى على حساب مشاعرها… وكيف لا تكون كذلك وهي موسومة بتربية أجيال على القيم ونحْت ملامح مواطنين صالحين للارتقاء بالمجتمع؟
لكن المبدع قد لا يريدها بهذه القسوة التي تكبتُ فيها مشاعرها لتجعل الناشئة متوازني الشخصية وتنْحتُ فيهم ملامح الشخصية المتوازنة ولن يكون ذلك الا بالتوازن بين العقل والمشاعر وبين الفكر والوجدان.
أما المشاكس فقد جسد لنا نموذج المرأة البدوية المفعول بها والتي لا تملك حق تقرير مصيرها حتى على حساب مشاعرها بسبب سلطة الاهل والقبيلة.
ولعل المشاكس يتوق الى المرأة الفاعلة والتي تملك زمام أمورها.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة صدّا مسؤولا او صدّا غير مسؤول.
بتاريخ: 25/ 08/ 2024
المراجع :
(1) أماني النجار:مسوّغات الابتداء بالنكرة-آخر تحديث :09/اوغسطس 2023
https://mawdoo3.cim>. .
https://www.aljazeera.(2)
https://news.wafrle.com> post(3)
https://www.shorouknews.com>..(4)
https://ar.wikipedia.org>wiki>(5)هودج
هودج – ويكيبيديا
قصيد المبدع حمد حاجي
مُعلمّةٌ ويسارعُ أطفالُها يحملون حقيبتها من يديها.. فيا ليتني طفلُها الأوْحَدُ
تُعَاندُني… تتجاهلني.. وتمرّ كأن لم ترَ جثتي كيف أجحدُ ما ليس يَنجحِدُ؟
تسير وتمحو خطاها هواي، كأنيَ سبّورةٌ كلُّها غلطٌ وتمرّ عليه يَدُ
لها حاجبان تقول بهما(لا) كأنهما: اليومَ لا استطيع.. غدًا لستُ أعتقدُ
قصيد المشاكس عمر دغرير”””””””””””””””””””””””””””””””””””
وما زلتَ تلاحقها ,وتقتفي أثر عطرها ,وتتغنى بسحر حاجبيها و تنشدُ …
وكمْ زحفتَ خلف هودجها ..ولما بالكاد , حاولتَ مسك ناقتها صفعتك يدُ …
وكمْ نبهتك أنْ تظلّ بعيدا ,فلا تقتربُ . فإنْ تماديتَ في غيّكَ فهي تبتعدُ …
وقدْ تشكوكَ لأهلها , وحولك يلتفون ,ويكون مصيركَ ما لنْ يتوقعه أحدُ …
قراءة نقدية مزدوجة:
“الرباعية بين معلمة وبدوية”
فقرة جمع بصيغة المفرد (مبدع /مشاكس/ ناقدة )
المبدع:حمد حاجي (تونس).
الرباعية:”معلمة”
المشاكس:عمر دغرير(تونس)
الرباعية:”وما زلت تلاحقها..”
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية المزدوجة : “الرباعية بين معلمة وبدوية”
أ- المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– على مستوى المضمون:
– الصدّ للحبيب.
– القفلة:مصير الحبيب
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي وصدّ الحبيبة المعلمة:
من الأقوال التي ألحقت بالنساء في موضوع الحب “أنهن يتمنّعن وهن راغبات”وقد يبالغن في التمنع الى درجة تجاهل الحبيب وازاء هذا التجاهل يزداد الحبيب تشبّثا بالحبيبة وتقرّبا منها وهي في المقابل تزداد عنادا وصدّا له.
هل المرأة الحبيبة التي اختارها المبدع حمد حاجي باعتبارها معلّمة ستكون بهذا المَلمَح المتمنّع والعنيد والمتجاهل؟أم لها ملمحُها الخاصّ بها؟؟
استهلّ الشاعر قصيدته باسم نكرة(معلّمة) في حالة اعراب مبتدأ.
ان المتعارف عليه انّ المبتدأ يكون معرفة اذ كيف يكون الاخبارعن أمر مجهول او نكرة؟
منذ البداية يضعُنا الشاعرأمام صعوبة لغوية لها دلالتها المعنوية في وصف المعلمة .
وبالتالي يضعنا الشاعر أمام اشكالية وهي البحث عن مسوّغات الابتداء بالاسم النكرة.
انّ من بين مسوّغات الابتداء بالاسم النكرة اذا كان هذا الاسم يفيد المدْح أو الذمّ.(1).
وبما أن المقام يقتضي مدح المعلمة فان الشاعراستخدم هذه الظاهرة اللغوية النادرة والاستثنائية والصعبة لتُوظف في مدْح هذه الحبيبة التي هي محبوبة من طرف أطفالها الى درجة خدمتها فهم يسارعون لحمل حقيبتها من يديها لتوفير الراحة لها فيقول المبدع :
معلمة ويسارع أطفالها يحملون حقيبتها من يديها..فيا ليتني
طفلها الأوحد.
كأني بالشاعر هنا يسعى أن يُهيئنا لصعوبة المعلمة واستثنائيتها ومن ناحية أخرى يحاول ان يُعلمنا ان هذه المرأة باعتبارها معلمة ستقدّم لهذا المتيّم بها دُروسا.
هنا تمنّى المتيّم بالمعلمة أو المغرم بها لو كان “طفلها الأوحد” حتى يحْتكر خدمتها لنفسه.
وهنا يقول “بيكهاردت” “ان الطفل الواحد هو القائد غالبا في المجموعات في فصول الدراسة”(2).
فهو لا يريد أن يضع الآخرون قيودا عليه وهو قادر على قيادة المجموعة”.
وهذا الطفل” الأوحد” سيكون مُدلّلا من طرف المعلمة وقد يصفه بقية الاطفال بالانانيّ لانه يحتكر خدمة المعلمة التي يتهافتون عليها هم الآخرون.
ان الشاعر استعمل حرف التمني”ليت” وهو يفيد طلب المستحيل كأنه يُعْلم أن حُلم هذا المغرم لن يتحقّق ولن يكون “طفلها الأوحد”.
لقد وصفها المبدع بالعناد المستمرّ والتجاهل المتواصل باستخدام صيغة المضارع الموفوع الذي يفيد الدوام والاستمرارية(تعاندني …وتتجاهلني… وتمرّ)
والعناد هو دليل على الاستقلالية وقوّة الشخصية التي تنشأ عند الشخص منذ سن الطفولة.
والعناد وسيلة لاستعراض القوة الشخصية وما تتطلّبه من قيم تتعلق بدحْر الآخر واعلان الانتصار عليه بتصلّبها وفرض رأيها عليه وعلى الآخرين بطريقة دكتاتورية.
هل المبدع يشي لنا بالعلاقة الدكتاتورية للمعلمة مع أطفالها بفصل الدراسة؟
قد لا أرجّح ذلك لعله يريد أن يُسطُّر على حزْمها وعزْمها وحسْمها للأمور وما يدعم ذلك حبّ الاطفال لها.
أما تجاهلها له فقد فسّره علماء النفس بثلاثة معاني أو تأويلات (3):
1- الازدراء:تعبّرفيه المرأة عن رفضها بالتجاهل.
2- التجاهل التكتيكي وهو الازدراء الذي يهدف الى تجميد علاقتها بالمغرم بها أو دفعه ببعض الكلمات اللطيفة الى الارتباط بها أكثر.انها تُرْبكُه وتجْعله غير قادر على الحكم على مشاعرها .
3- تجاهل العقوبة وهو نوع من الازدراء تمارسه المرأة على الرجل لايقاعه في السوء تُجاهها فتجعله يشعر بالذنب نحوها.
يمكن القول وحوصلة لما قال علماء النفس بأن تجاهل المرأة للرجل المعجب بها هو لتجْذبه أكثر فالرجل ينجذب للمرأة التي لا تطارده والتي لا تأخذ المبادرة فهو ينْجذب للمرأة التي لاتعيره اهتماما وتجعله يشعرأنه يسعى لقربها ويقوم بمجهود لجذبها اليه وهو أمر يُحبذه الطرفان.
فهل يمكن لهذه المعلمة أن تعلّمنا درسا في العفّة والتعفّف؟
ان هذا المتيّم بحبّ المعلمة قد مات” شهيدا” في سبيل حبها على حدّ قول نزار قباني حين قال المبدع:”كأن لمْ تر جثتي”
والجثة هي جسم الانسان الميّت.انها لم ترْحمه وقد مات في سبيل حبّها.
وهي تظلّ في تجاهلها له رغم أنه لم “يجْحد ما ليس ينْجحد” من حبّه لها.انه في هذا المعنى يتناصّ مع ايليا ابو ماضي في قوله:
ما جَحد الحُبّ غير جاهله// أيجْحدُ الشمس من له بصرُ؟
وهل أكثر من تجاهلها له من أنها تمحُو هواه بخطاها “كأنها سبورة كلّها غلطُ” وقامت بمحوها كاملة.ووجه الشبه يتجلى في عدم ترك الأثر كأنّ المبدع بهذه الصورة المجازية جعل المعلمة تريد أن تمحُو أثر هواه من الوجود..
.انها تدوس على هواه بخطاها أي بقدميها..
انها نهاية في التجاهل والصدّ له.
انها صورة لها دلالتها المعنوية كأن المبدع جعل المعلمة تُواجهه وتصدّه بوسائلها التعليمية(سبورة/تمحو/ غلط).
انها مُعجمية لغوية تعليمية لعل المبدع وظفها لابراز مدى تشبّث المعلمة بوسائلها التعليمية وتمسّكها بمهنتها .
هل يمكن ان يكون هذا درْسا آخر يتعلمُه أهل المهنة في مهنيّة المعلمة وعشقها لمهنتها؟
يختم الشاعر بقفلة لم نكن لنتوقّعها حين قال:
لها حاجبان تقول بهما(لا)
كأنهما: اليوم لا أسستطيع…غدا
لست أعتقدُ.
انه شيء من المرونة بالنسبة لما هي عليه من صعوبة وتجاهل له فهي تواصلتْ معه تواصلا غير لفظيّ والحواجب أول وسيلة تواصل اجتماعي.
لقد توصّل الباحثون البريطانيون الى” ان الحواجبُ لها أهمّية كبيرة في التطوّر البشري لان أسلافنا من خلالها تعلّموا كيفية التواصل الاجتماعي”(4) .
فهل نعتبر انّ هذه المعلمة قد علّمتنا درسا في التواصل الاجتماعي يتعلّق بالتواصل غير اللفظي؟
ان المعلمة لم تفتح لهذا الرجل المغرم باب قسمها بل فتحت له نافذة من نوافذ قسمها وقد تحفّظت في ذلك فيمكن القول بانها نافذة نصف مفتوحة ونصف مغلقة حين تواصلت معه تواصلا غير لفظي انه تواصل بالايماء كأنّ مهنتها الشاقة مهنة التعليم قد اسْتنزفت قواها
ولم تعدْ قادرة حتى على التواصل اللفظي بالكلام وكأني بالمبدع بقدر ما يشعر بتعبها بقدر ما يشعر بألم هذا المغرم حين جعلها تتواصل معه ولو بالايماء لتعبّر له عن عدم استجابتها له اليوم وعدم اعتقادها بالاستجابة اليه يوم غد (في المستقبل).
ان هذا المعنى يتناصّ مع ما قاله الشاعر الأموي عمر ابن أبي ربيعة في هند:
ليت هندا أنجزتنا ما تعدْ// وشفتْ أنفسنا ممّا نجدْ
كلما قلتُ متى ميعادنا//ضحكت هند وقالتْ بعد غد.
هل الشاعر أراد أن يسّطر على نموذج من المرأة المتمنعة وهي راغبة؟
هل هي معلمة قاسية على المتيّم بها؟
هل هي معلمة قاسية حتى على نفسها وتخنق مشاعرها وتكبتها؟
انها أسئلة تبقى مطروحة وقد تبقى مطروحة على المتلقّي للنظر في الجواب عنها.
والمشاكس عمر دغرير أحد المتلقين فهل سيتناغم مع المبدع حمد حاجي في صدّهذه المرأة المعلمة للمغرم بها؟
2- المشاكس عمر دغرير وصدّ البدوية :
باستخدام ضمير المخاطب المفرد يتوجّه المشاكس الى المبدع ليذكره بكل ما يفعله من أجل أن يظفر بحب هذه المرأة فيقول:
وما زلت تلاحقها وتقتفي أثر عطرها وتتغنّى بسحر حاجبيها
وتنشدُ…
ولعل المشاكس لا يخفي عنا سخريته من ناحية من المبدع واعجابه من ناحية أخرى بهذه المراة:
– سخريته من المبدع الذي يتكبّد العناء من أجل هذه المرأة .
– اعجابه هو الآخر بهذه المرأة بعطرها وبسحر حاجبيها..
انه الجمال الذي جعل المبدع يتغنى بها في أشعاره.
ان المشاكس لعب على المكان و على الشخصية فحوّل بذلك شخصية المعلمة بشخصية البدوية والمدْرسة بالهودج .
ان هذا التحوّل سيغير في مجرى الاحداث ليجعل المبدع يتحول من ملاحقة المعلمة بالمدرسة الى ملاحقة البدوية بالهودج فيقول المشاكس:
وكم زحفت خلف هودجها.. ولما بالكاد حاولت مسك ناقتها
صفعتك يد…
ان المشاكس استخدم معجمية من المحيط البدوي(هودج / ناقة..)
و”الهودج هو محمل يوضع على ظهر الحيوانات مثل الجمال..أشبه بالمركب فيه مقعد أو سرير مظلل عادة وقد يكون مغلقا بالكامل استخدم في الماضي عادة لحمل الاثرياء او للنساء أثناء السفر.صنع من خشب وظلل بالقماش..”(5).
ولئن كان صدّ المعلمة لهذا المتيّم بها في عُقر دارها(عملها) بالمدرسة فان هذه البدوية قد تمّ تسْفيرها لابعادها عنه لأن البدْو يرفضون التشبيب بالمرأة والتغني بجمالها في الأشعار كما فعل المبدع( وتتغنى …وتنشد..) لذلك صفعته يدٌ حين حاول مسك ناقتها .
وهنا يتناص المشاكس مع قصة أهل ليلى التي تشبب بها قيس بن الملوّح وحُرم منها الى الأبد وكذلك يتناصّ مع قصة قيس بن ذريح ولبنى.
وفي هذا الاطار كأني بالمشاكس يتعاطف من ناحية مع المبدع ومن ناحية أخرى مع البدوية :
– مع المبدع الذي لم يستطع أن يقضي وطرًا من هذه الحبيبة البدوية.
– مع الحبيبة البدوية التي لا حول ولاقوة لا الا بأهلها و بقبيلتها .
هذاما جعل المشاكس يتقمّص دور الناصح والمنبّه للمبدع للابتعاد عنها واعتبره
متماديا في غيّه وضلاله.يقول المشاكس:
وكم نبهتك أن تظلّ بعيدا فلا تقترب.فان تماديت في غيك
فهي تبتعد…
وأكثرمن ذلك فقد جعل ابتعادها عنه بيد أهلها الذين تأخذهم نعرة العصبية ككل البدو للدفاع عن “شرفهم”لالحاق الضرر به بطريقة لا يتوقعها أحد فيقول:
وقد تشكوك الى أهلها,وحولك يلتفون, ويكون مصيرك ما لن
يتوقعه أحد…
انها قفلة قد تلتقي مع قفلة المبدع شكلا وقد تختلف مضمونا:
يقول المبدع: “اليوم لا أستطيع..غدا لست أعتقد”
يقول المشاكس:”وقد تشكوك الى أهلها وحولك يلتفون ويكون مصيرك ما لن
يتوقعه أحد…”
– المشترك في القفلة هو صدّ لحبيبة للمبدع(سواء المعلمة او البدوية).
– المختلف في القفلة يكمن في المسؤول عن الصدّ.
وفي هذا الاطار ومن خلال الفجوات النصية سواء لدى المبدع او لدى المشاكس فان القارئ قد يتدخل ليثير قضية المرأة المثقفة والمرأة غير المثقفة فقد يعتبر ان المعلمة باعتبارها مثقفة فهي تملك زمام أمورها وهي المسؤولة عن تقرير مصيرها وقد يعتبر البدوية غير المثقفة لا تملك تقرير مصيرها بنفسها وصدّها للحبيب هو بيد أهلها وحتى وان كانت البدوية مثقفة فنعرة القبلية تخمد صوتها.
وبالتالي فقد يعتبر القارئ ان المعلمة فاعلة فهي التي تصدّ المبدع ايمانا منها بمبادئها ومسؤوليتها المهنية ومنح الاولوية لرسالتها التربوية حتى على حساب
مشاعرها التي خنقتها وكبتتها.
وقد يعتبر القارئ ان هذه البدوية مفعول بها في صدّ المبدع(الحبيب) ولو على حساب مشاعرها قناعة منها بسلطة القبيلة التي تسلبها حق أخذ القرار حتى في مشاعرها.
وبالتالى قد تلتقي المعلمة مع البدوية في صدّ الحبيب وكبْت مشاعرها لكن الفرق ان المعلمة مسؤولة عن هذا الصدّ والبدوية غير مسؤولة.
وخلاصة القول ان الشاعر حمد حاجي قدّم لنا نموذجا لمعلمة قد تكون قاسية على المغرم بها عند تجاهلها لعشقه لها وهي في نفس الوقت لم تكن متمنّعة وهي راغبة بل كانت قاسية حتى على نفسها حين حرّمت على نفسها الحبّ للمتيّم بها وخنقت مشاعرها ولم تعشق غير مهنتها وأطفالها …
ان موقفها ازاء المغرم بها فيه شيء من الصلابة والقسوة…لعلّ الشاعر حمد حاجي أراد أن يرسم لنا صورة للمعلمة المتعفّفة والمعلمة المُخلصة لعملها والمتيّمة بأطفالها والعاشقة لمهنتها والوفية لمبادئها حتى على حساب مشاعرها… وكيف لا تكون كذلك وهي موسومة بتربية أجيال على القيم ونحْت ملامح مواطنين صالحين للارتقاء بالمجتمع؟
لكن المبدع قد لا يريدها بهذه القسوة التي تكبتُ فيها مشاعرها لتجعل الناشئة متوازني الشخصية وتنْحتُ فيهم ملامح الشخصية المتوازنة ولن يكون ذلك الا بالتوازن بين العقل والمشاعر وبين الفكر والوجدان.
أما المشاكس فقد جسد لنا نموذج المرأة البدوية المفعول بها والتي لا تملك حق تقرير مصيرها حتى على حساب مشاعرها بسبب سلطة الاهل والقبيلة.
ولعل المشاكس يتوق الى المرأة الفاعلة والتي تملك زمام أمورها.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة صدّا مسؤولا او صدّا غير مسؤول.
بتاريخ: 25/ 08/ 2024
المراجع :
(1) أماني النجار:مسوّغات الابتداء بالنكرة-آخر تحديث :09/اوغسطس 2023
https://mawdoo3.cim>. .
https://www.aljazeera.(2)
https://news.wafrle.com> post(3)
https://www.shorouknews.com>..(4)
https://ar.wikipedia.org>wiki>(5)هودج
هودج – ويكيبيديا
قصيد المبدع حمد حاجي
مُعلمّةٌ ويسارعُ أطفالُها يحملون حقيبتها من يديها.. فيا ليتني طفلُها الأوْحَدُ
تُعَاندُني… تتجاهلني.. وتمرّ كأن لم ترَ جثتي كيف أجحدُ ما ليس يَنجحِدُ؟
تسير وتمحو خطاها هواي، كأنيَ سبّورةٌ كلُّها غلطٌ وتمرّ عليه يَدُ
لها حاجبان تقول بهما(لا) كأنهما: اليومَ لا استطيع.. غدًا لستُ أعتقدُ
قصيد المشاكس عمر دغرير”””””””””””””””””””””””””””””””””””
وما زلتَ تلاحقها ,وتقتفي أثر عطرها ,وتتغنى بسحر حاجبيها و تنشدُ …
وكمْ زحفتَ خلف هودجها ..ولما بالكاد , حاولتَ مسك ناقتها صفعتك يدُ …
وكمْ نبهتك أنْ تظلّ بعيدا ,فلا تقتربُ . فإنْ تماديتَ في غيّكَ فهي تبتعدُ …
وقدْ تشكوكَ لأهلها , وحولك يلتفون ,ويكون مصيركَ ما لنْ يتوقعه أحدُ …