توظيف الرمز بلاغيا كاستعارة كبرى لمجتمع آيل للسقوط.
د. بوزيان موساوي. ناقد مغربي.
1 ـ تداعيات بين معلوم وموهوم:
“امبراطورية الثعابين” عنوان رواية من وحي الخيال؛ هكذا يعرضها مؤلفها الأديب العراقي أحمد الجنديل لعموم القراء بالوطن العربي وخارجه. رواية مثيرة للجدل شكلا ومضمونا. هل هي فعلا من وحي الخيال؟ وإن كانت كذلك، أليس الخيال نفسه من وحي الواقع؟ أم أن الواقع أغرب بكثير مما قد يتصوره الخيال؟ تضاعيف النص الروائي وحدها قد تمدنا ببعض الأجوبة.
العنوان في حد ذاته (“امبراطورية الثعابين”) يوحي بتداعيات مفارقة بين “معلوم” و”موهوم”.
“المعلوم” في الجملة مُشَبّهٌ به (الثعابين)؛ فإضافة لمعناها اللفظي المتداول كونها زواحف سامة ماكرة ومخيفة وقاتلة، تحيل رمزية الثعبان في الاصطلاح اللاهوتي منذ سفر التكوين (حسب الكتب السماوية) على قصة مقولتي الغواية (الشيطان في صورة ثعبان) والخطيئة (قضم التفاحة). وفي معجم علماء الاقتصاد، يُلَقّب “الدولار” (هذه العملة الصعبة الخضراء) ب “الثعبان الأمريكي”؛ وهو رمز الرأسمالية العالمية، والسلطة، والتحكّم، والاستعباد. وقد يكمن وجه الشبه (القاسم المشترك) بين الدلالتين (اللاهوتية والاقتصادية) في تكريسهما معا لمقولتي “الغواية” و”الخطيئة”.
أما “الموهوم” المُشبّهُ المُغيّبُ في العنوان (الوجه الثاني للمفارقة) فيحضر على طول ربوع الرواية (ثلاثة فصول) على شكل شخصيات مركبة نفسيا واجتماعيا بأسماء وأقنعة متعددة حتى إن القارئ المنفتح على النظريات النقدية الحديثة قد يجد نفسه في مأزق توظيف بعض آليات التفكيك والتحليل البنيوية مثل “هرم فريتاغ”، و”النموذج العاملي”، و”المربع السيميائي” على سبيل المثال لا الحصر…
2 ـ فاعل ومفعول به:
عادة ما يستأنس القارئ “المهتم” (طلاب الجامعة خاصة) بتوظيف “النموذج العاملي” لتحديد ماهية ووظيفة (دور) كل شخصية في أي عمل سردي أدبي على شاكلة الحكاية والقصة والرواية (ويعني “النموذج العاملي” القوة الفاعلة التي تقوم بتوجيه الأحداث وتفعيلها: العامل الذات الراغب في الحصول على العامل الموضوع أو العكس (بينهما علاقة رغبة)، والعامل الذات يحتاج إلى عامل الحافز أو الدافع (هو العامل المُرسِل)، وتحقيق الذات للموضع عبر الحافز يذهب إلى عامل المستفيد (أو المُرسَل إليه)، وبين المُرسِل والمُرسَل إليه علاقة تواصل.، و في مخاض البحث عن تحقيق الذات للموضوع هناك عوامل مساعدة، وعوامل معارضة (والعلاقة بينهما علاقة صراع دائمة). في هذه الرواية، أول ما يربك القارئ على مستوى “نوعية التلفظ” (Type d’énonciation )؛ يكمن في ازدواجية “التبئير” (Focalisation) بمفهوم ج. جونيت؛ نتساءل: أيّ وجهة نظر نعتمد لقراءة قضايا وأسئلة ومواقف هذه الرواية: وجهة نظر الكاتب نفسه أحمد الجنديل، أم نظرة الشخصية المحورية “ساجدة النعساني” الذات الساردة العالمة بضمير المتكلم “الأنا” بصيغة المؤنث؟ مع العلم أن المُؤلِّف يصرِّح في ورقة خارجية تتصدر الكتاب (ص. 2) بأن:
“هذه الرواية من صنع الخيال، وإذا ما توافقت شخصية حقيقية مع شخصيات الرواية فإن ذلك يعود إلى المصادفة وحدها.”
وما يربك آفاق انتظار القارئ أكثر عبر انطباعات تتجاذبها مشاعر الحيرة والإعجاب في ذات الآن قدرة الروائي أحمد الجنديل في تقمص شخصية امرأة تارة “مومس”، و تارة عين شاهدة على ظرفية تاريخية حرجة يَمُرّ منها العراق خاصة والعالم العربي عامة، وتارة أخرى “الضحية” و”الجلاد” و”الضمير الحي” في نفس الوقت (التلميذة المجتهدة البريئة، والمراهقة رمز الغواية، والفقيرة ضحية الإغراءات المالية، والدكتورة المثقفة بنت السادسة والعشرين سنة التي آلت على نفسها تعرية آفات مجتمع آيل للسقوط.)
شخصية نسوية مركبة حد التعقيد؛ فبالإضافة إلى أسمائها العديدة المستعارة، يخال للقارئ في بعض محطات الرواية أن الأمر لا يتعلق بامرأة واحدة، بل بالمرأة العراقية/ العربية بصيغة الجمع التي لا يرى فيها مجتمعها الذكوري الشرقي غير الأنثى/ الأثاث/ الجسد الذي يمكن امتلاكه بإغراءات مادية؛ نقرأ: ” العاهرة جنان دفعتني إلى شِباك لا أستطيع التخلص منها، أبي لعب به إغراء المال فأشاح بوجهه عن ابنته، أمي ما عادت قادرة على تخليصي من شراسة الذئاب..” (ص. 55).
وقد يرى القارئ في هذه الشخصية المركبة (ساجدة النعساني) صورة المرأة الضحية/ الجلاد التي تقرر ولوج حلبة “الثعابين” لتنتقم لشرفها فتستحضر ميتافيزيقيا و سيكولوجيا ثنائية الصراع بين الشر (الشيطان)، والخير (الرب)؛ نقرأ (ص.60):
“لتكن مشيئتك أيها الرب، الدعاة إلى تعاليمك خذلوك وأسرعوا إلى حظيرة الشيطان، وأنت يا رب الأرباب، أطلب منك هدنة لكي أفرز الخيوط، أستوعب اليسير مِمّا أنا فيه من الطلاسم لأتأكد من وجودي في هذا العالم، ما أتعسني وأنا أرى التقاليد والأعراف مختومة ببصمة عدوك، ولم أجد فعلك المضيء عليها، يا لقبح المحنة التي أنا فيها…”
هي فقرة مفصلية في بدايات الفصل الثاني من الرواية؛ “حدث الصعود إلى الذروة” (كما جاء في “هرم فريتاغ”)؛ حدث فقدان البطلة لبكارتها (“شرفها”؟)، وكأننا نختزل الشرف (شرف المرأة) في بكارتها؛ نقرأ:
“كنت أتساءل مع نفسي، لماذا هذا الخوف؟ طالما ارتميتُ في حضن السامون وغيره، و طالما كنتُ البطلة في إيقاظ غرائزهم النائمة، فلماذا كل هذا الخوف الذي أنا فيه؟ لم أجد تفسيرا واحدا غير الخوف على حجابي الداخلي من التمزق، كل ما فعلته مع الرجال كان لا يمس هذا الحجاب الذي أفتخر به، فكيف إذا تمزق وأصبحت بلا حجاب؟” (ص. 53).
وتستدرك (ساجدة النعساني) من موقع المنهزمة/ المصدومة تارة؛ تقول:
“التقطت قطعة القماش المراق عليها شرفي وعليها قطرات الدم، هذه شهادة هزيمتي” ص. 64
وتارة من موقع المتمردة تقول:
“سأزف البشرى لأمي لأخبرها بأنني متمسكة بحجابي الخارجي، هذا هو المهم، ما يحدث في الداخل لا يراه أحد، والمستور في عالم الغيب، والناس لها ظواهر الأمور…” (ص. 60).
قد يذهب القارئ في تأويلاته بخصوص هذه الشخصية الأنثوية المركبة والمتناقضة إلى اعتبار هذه المرأة/ البطلة المتمردة، والضحية المغرر بها، ورمز الغواية، والضمير الذي لا ينام… رمزا للأرض/ الوطن؛ بلد لا يملك غير شرفه، تتقاذفه أهواء الأيديولوجيات، والصراعات الطائفية و المذهبية، وجشع اطماع أخطبوطات دولية خارجية، وانتهازية الساسة واللوبيات الاقتصادية المحلية… باسم الدين، والوطنية، والديموقراطية؛ فتصل سخرية الذات الساردة (ومن ورائها الكاتب أحمد جنديل)، أو ربما سخرية القدر إلى ذروتها لما نقرأ بلسان (ساجدة) (ص. 69):
” أردت أن أفتح له أبواب الجحيم ليفتح لي أبواب ثروته، أسقيه اللذة التي يحلم بها ليسقيني العزاء المتمثل بالذهب، هيأت له الحطب والموقد وأبقيتُ الشرارة بيدي، أردت أن ينجح في مهمته الوطنية التي جاء من أجلها على أحسن وجه، وأسعى إلى التألق في مهمتي التي كلفني بها، الوطن يستغيث به ومن العيب أن تظل الرجولة واقفة أمام استغاثة الوطن، كلنا فداء لهذا الوطن المفدّى، كلنا جنود أمناء للدفاع عن حياضه، سنروي بدمائنا أرض الوطن مثلما روى دمي أرض الدكتور السامون في الليلة الماضية.”
من هو هذا المغتصِب “السامون”؟ هو شخصية محورية في الرواية بعدة أسماء، وبأقنعة مختلفة؛ ليس حالة معزولة ولا يحيل على شخص في حد ذاته، بل يمثل مجازا “نخبة اجتماعية” تشبه “الثعابين” متحكمة في العباد والرقاب كل مرة بذريعة أو تحت “يافطة” مختلفة باسم المال والدين والسياسة… نقرأ:
“قبل أن ننحرف إلى جهة اليسار، سألت جنانا بتعجب:
ـ ما هذه البناية المدهشة؟
أجايت دون أن تلتفت إليّ:
ـ إنها شركة الربيع الدائم التي يملكها غالب.
قاطعتها بضحكة:
ـ الدكتور سميع السامون؟
التفتت نحوي وقد لوت شفتها السفلى، قائلة:
ـ لا يهم، كل الأسماء تدل على اسم واحد.” (ص. 46)
3 ـ رواية “الاعتراف”
هي رواية “الاعتراف” إذن. ونتساءل: هل المقصود فنيا إقحام القارئ في عوالم سردية تشبه “السيرة الذاتية” كما رواية جان جاك روسو “اعترافات” (Les confessions)؟ هي فرضية ممكنة اعتبارا لبنية الرواية التي تنخرط في هذا الاتجاه.
أم أننا أمام “اعترافات” جريئة على شكل “قصص ماجنة” (يقول عنها البعض أنها تخدش الحياء العام) هدفها فضح التناقضات والمفارقات الاجتماعية داخل ازدواجية “المقدَّس” و”المُدَنّس” (Le sacré et le profane) كما في المجموعة القصصية (L’Heptaméron) التي كتبتها الأميرة مارغريت دو نافار (القرن 16 الفرنسي) على شكل قصص ماجنة لتعرية ممارسات رجال ونساء البلاط الملكي أيام حكم أخيها الملك الفرنسي فرانسوا الأول؟ فرضية ثانية ممكنة لأن الهدف الأسمى من اعترافات ساجدة هو فعلا تعرية مجتمعها المنافق.
أم أن “الاعتراف” في سياق هذه الرواية شبيه بتلك الطقوس التعبدية (كما عند بعض المسيحيين) التي يروم المؤمن(ة) من ممارستها الاعتراف بالخطيئة/ الذنوب، والتعبير عن الندم، والإعلان عن التوبة، وطلب المغفرة والغفران؟
نقرأ لأحمد الجنديل على لسان الذات الساردة/ الشخصية البطلة في مستهل الرواية (ص. 5):
“لماذا يؤرقني هذا الهاجس المخيف بين الحين والآخر؟ ما الذي أبتغيه على وجه الدقة من تدوين اعترافاتي هذه؟ (…) ـ من يصدق هذه الأحداث التي عشتها وأعيشها كل يوم؟ فالناس قد اعتادت على تصديق ما هو متعارف عليه، والجميع مصاب بقصر النظر، والعقول حدودها المكشوف ولا تستطيع الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، بينما تحت سطح المألوف تدور أحداث أغرب من خيال الشعراء وأحلام المجانين.”
هي قبل كل شيء رواية أسئلة ذات طابع وجودي تتجاوز المتعارف عليه ب”الوازع الأخلاقي” المغشوش. أسئلة مفتوحة وستبقى كما “لعنة الغواية” منذ بدء التكوين.
ولنا عودة للرواية في مستقبل الأيام لسبرأغوار أخرى لم يتح لنا الحيز الضيق مقاربتها…
د. بوزيان موساوي. ناقد مغربي.
Discussion about this post