في مثل هذا اليوم 1 يناير1965م..
صدور البيان الأول لحركة فتح الفلسطينية وبداية الثورة المسلحة.
تعود جذور نشأة حركة “فتح” إلى أواخر العام 1957، حيث تم عقد لقاء ضم ستة أشخاص هم: ياسر عرفات، وخليل الوزير، وعادل عبد الكريم، وعبد الله الدنان، ويوسف عميرة، وتوفيق شديد؛ واعتبر هذا اللقاء بمثابة اللقاء التأسيسي الأول لحركة “فتح “، وصاغ المؤسسون ما سمي “هيكل البناء الثوري” و”بيان حركتنا”، وتبع ذلك انضمام أعضاء جدد منذ العام 1959 كان أبرزهم: صلاح خلف، وخالد الحسن، وعبد الفتاح حمود، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار، وعبد الفتاح إسماعيل، ومحمود عباس.
في العام 1959 ظهرت “فتح” من خلال منبرها الإعلامي الأول مجلة “فلسطيننا – نداء الحياة”، التي صدرت في بيروت منذ شهر تشرين ثاني/ نوفمبر، والتي أدارها توفيق خوري، وقامت مجلة “فلسطيننا” بمهمة التعريف بالحركة ونشر فكرها ما بين 1959 – 1964 واستقطبت من خلالها العديد من المجموعات التنظيمية الثورية الأخرى، فانضم للحركة خلال تلك الفترة كل من: ماجد أبو شرار، وأحمد قريع، وفاروق قدومي، وصخر حبش، ويحيى عاشور، وزكريا عبد الحميد، وسميح أبو كويك، وعباس زكي، وغيرهم الكثير إلى صفوف هذه الحركة الناشئة؛ ثم بدأت بالتوسع سراً، فلم يكن هناك شروط لاكتساب العضوية في التنظيم سوى الاستعداد للتوجه بالعمل نحو فلسطين، والنقاء الأمني والأخلاقي، وعدم التبعية لأي نظام عربي؛ فكان لها امتدادات تنظيمية في الوطن والشتات.
جاءت النشأة إثر نكبة عام 1948م وما تلاها من أحداث ولدت شعوراً بالمرارة من عدم إقدام الزعامات الفلسطينية التقليدية على التحرك، وانشغال الدول العربية بمشاكلها القطرية.
ففي الفاتح من كانون الثاني-يناير عام 1965م كانت البداية وكانت الطلقة الأولى، حيث تسللت المجموعة الفدائية الأولى لحركة “فتح” إلى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وفجرت نفق عيلبون الذي يتم من خلاله سحب مياه نهر الأردن لإيصالها إلى صحراء النقب، لبناء المستوطنات من أجل إسكان اليهود المهاجرين فيها، وعادت المجموعة الفدائية إلى قواعدها بعد أن قدمت شهيدها الأول أحمد موسى أثناء العملية لتعمّد بالدم باكورة مقارعتها للاحتلال، وكان البلاغ العسكري رقم واحد:
“اتكالاً منا على الله، وإيماناً منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيماناً منا بموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج، وإيماناً منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم، لذلك تحركت أجنحة من قواتنا الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964م، 1/1/1965م وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملةً ضمن الأرض المحتلة، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمةً. وإننا لنحذر العدو من القيام بأية إجراءات ضد المدنيين الآمنين العرب أينما كانوا؛ لأن قواتنا سترد على الاعتداء باعتداءات مماثلة، وستعتبر هذه الإجراءات من جرائم الحرب. كما وأننا نحذر جميع الدول من التدخل لصالح العدو، وبأي شكل كان، لأن قواتنا سترد على هذا العمل بتعريض مصالح هذه الدول للدمار أينما كانت. عاشت وحدة شعبنا وعاش نضاله لاستعادة كرامته ووطنه’. القيادة العامة لقوات العاصفة 1/1/1965م.
وكان البلاغ الأول إيذانا بانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة لتكون “فتح” أول من تبنّى الكفاح المسلح، باعتباره السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، في ظل عالم كان لا يفهم لغة غير لغة القوة.
وقد شكل انطلاق حركة “فتح” بالكفاح المسلح، في يناير 1965، ولادة حقيقية لحركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة بعد النكبة، لتعيد معه حركة “فتح” الاعتبار لهوية الشعب الفلسطيني وشخصيته الوطنية، وتلفت كل الأنظار إلى القضية الفلسطينية وعدالتها ومكانتها بين حركات التحرر في أرجاء العالم.
لم يرق ذلك لبعض الأنظمة العربية التي كانت تخشى على نفسها من عدوان إسرائيلي؛ في ظل إفلاسها وانشغالها بالمهاترات السياسية في ذلك الوقت؛ فشنت حملة إعلامية واسعة النطاق على حركة “فتح”، وشرعت بحملة اعتقالات طالت معظم قيادات الحركة، وعلى رأسهم قائدها ومؤسسها الراحل الشهيد ياسر عرفات. ولم تمنع كل إجراءات القمع والملاحقة والتضييق هذه الحركة من مواصلة مسيرها.
ولم يكن الكفاح المسلح مجرد شعار فضفاض ترفعه الثورة الفلسطينية؛ بل كان جملة من المضامين والتوجهات المثمرة. بحيث تواصلت العمليات الفدائية في عمق الكيان المحتل لتقض مضاجعه، وراحت ‘فتح’ تدير جملة من المسارات الهادفة إلى بلورة الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني عبر منظومة متكاملة من الأنشطة السياسية والإعلامية والنقابية والثقافية التي حولت واقع الشتات البائس الى كينونة وطنية ترقى، في بعض تجلياتها إلى مصاف الكيانات السياسية الراقية في العالم.
في حزيران- يونيو عام 1967 هزمت إسرائيل الجيوش العربية الرسمية، واحتلت ما تبقى من الأرض الفلسطينية وأجزاء واسعة من الأراضي العربية المتاخمة؛ فسارعت حركة ‘فتح’ في أعقاب الهزيمة إلى إعادة تشكيل الخلايا والمجموعات السرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ونفذت أكثر من 130 عملية فدائية خلال الشهر الأول بعد الاحتلال؛ وكانت عملياتها البطولية تشكل نموذجا نضاليا أثقل كاحل الاحتلال.
لم تكن معركة الكرامة في 21 آذار- مارس 1968 انعطافة حاسمة في المسار الكفاحي لحركة ‘فتح’ وجناحها الضارب ‘قوات العاصفة’، بل علامة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني بشكل عام؛ اذ تمكنت ثلة من الفدائيين تناهز الـ 300 مقاتل، وبمشاركة وحدات من الجيش الأردني من صد عدوان عسكري إسرائيلي مدجج بأحدث أنواع العتاد؛ فتراجع الجيش الإسرائيلي الغازي بعد معركة شرسة مني خلالها بخسائر فادحة.
بالنصر الذي أحرزته حركة “فتح” في معركة الكرامة، تعزز الرصيد الكفاحي والسياسي لنهج الكفاح المسلح وتبخرت ريبة البعض في جدوى هذا المسار؛ فتصاعد الالتفاف الجماهيري العربي والفلسطيني إلى حدوده القصوى. ووجد هذا الالتفاف ترجمة له في انضمام آلاف المتطوعين في صفوف الحركة ليشكلوا ذخرا لمواصلة العمل المسلح في الضفة الغربية وقطاع غزة وعبر الحدود بشكل مكثف، وليعززوا مكانة الحركة وباقي فصائل العمل الوطني، ليس في أوساط الفلسطينيين فحسب، بل بين الجماهير العربية ولدى أحرار العالم أجمع.
بعد معركة الكرامة، زار ياسر عرفات مصر – وكانت قيادة ‘فتح’ قد انتخبته متحدثا رسميا باسم الحركة-وعندما سأله الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) عن صمود المقاتلين في معركة الكرامة وصد العدوان الإسرائيلي، أجابه أبو عمار قائلاً: ‘نطعم لحومنا لجنازير الدبابات ولا نركع’؛ ما دفع الزعيم جمال عبد الناصر إلى إطلاق عبارته الشهيرة بصدد الثورة الفلسطينية: انها ‘وجدت لتبقى، وهي أنبل ظاهرة عرفها التاريخ’.
قادت الانتصارات العسكرية التي أحرزتها فصائل الكفاح الفلسطيني المسلح وتعاظُم التأييد الجماهيري لنهجها المقاوم- إلى تحقيق نصر سياسي تجلى في سيطرتها على دفة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في4 شباط-فبراير 1969م؛ لتحررها من قيود الاحتواء والهيمنة العربية. وباتت المنظمة تشكل بالقيادة الجديدة وطناً معنوياً واحداً حراً مستقلًا للفلسطينيين جميعاً، وممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني؛ واتخذت ‘فتح’ دورها حاضنة للوحدة الوطنية الفلسطينية، وضامنة للسلم الأهلي، وصمام الأمان في وجه الفتنة والاقتتال.
على الرغم من النجاحات الكبرى التي حققتها حركة “فتح” منذ انطلاقتها، إلا أنها تعرضت لكثير من الانتكاسات؛ فبعد معركة الكرامة ومرحلة النهوض الثوري، كان الخروج المدوي من الساحة الأردنية إثر الأحداث الدامية من منتصف 1970م؛ نتيجة للاختلاف الاستراتيجي بين النظام السياسي والحركة الفدائية، وأهدافهما المتباينة والذي غذته عوامل إقليمية وعالمية مختلفة؛ ففقدت الحركة وباقي فصائل النضال الفلسطيني إحدى أهم ساحات العمل الوطني، التي كانت تشكل، لما تحتويه من سمات استراتيجية وذخرا جماهيريا- رافعة قوية للعمل الكفاحي.!!
Discussion about this post