(الأمة) وأساليب الصراع على الهوية ..
د.علي أحمد جديد
“إن الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا ، وهي الظّاهرة الّتي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدّرجة العالية من التّمدن . ولقد كان ظهور شخصيّة الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النّفسيّة البشريّة وتطوّر الاجتماع الإنسانيّ . أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التّطوّر البسريّ شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقةً ولطافةً وأشدّها تعقّداً ، إذ إنّ هذه الشّخصيّة مركّب (اجتماعي ـ اقتصاديّ ـ نفسانيّ) يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعورِه بشخصيّته ، شعورَه بشخصيّة جماعته ، أمّته ، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه ، وأن يجمع إلى فَهمِهِ نفسِه ، فَهمَهُ نفسّية مُتّحَدِه الاجتماعيّ وأن يربط مصالحَه بمصالحِ قومه ، وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره ، كما يودّ الخير لنفسه” .
الزعيم
( أنطون سعاده )
من مقدمة كتابه
“نشوء الأمم”
إن السعي في إنجاز تنمية مستدامة صحيحة وثابتة يتطلب فهم عالم اليوم بكل مكوناته بدءاً من الانسان نفسه وفهم تاريخه وحضارته التي كانت وانقضت مروراً بواقعه اليومي الذي يعيشه في الحاضر ، وحتى أنه يتطلب دراسة مفهوم كيان (الأمة) التي ينتمي إليها ، لأن العالم المعاصر اليوم صار متنوعاً جداً وشديد التعقيد باقتصادياته وسياساته وبتاريخه الحضاري والثقافي وحتى العسكري أيضاً . وبات الإنسان اليوم يعيش هذه التعقيدات في كل مناحي حياته وخصوصيته ، وصار الفرد مخلوقاً وعالَماً قائماً بحدِّ ذاته يختلف عن غيره في ميزاته الفكرية وفي خصوصياته ، بعد أن انقسم العالم إلى وحداتٍ ومحاورَ وأحلافٍ سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية متصارعة ، وصار كل جزء من العالم تحت سيطرة دول وكيانات وأحزاب أممية عابرة للحدود في فكرها وفي سياساتها وايديولوجياتها ، وصار كل فرد في هذا العالم ملتزماً بالانتماء إلى كيان دولته لأن العالم لم يعد يعترف بالانسان إلا من خلال انتمائه إلى دولة وكيان يحتضنه ويعترف بشرعية وجوده المادي كشخص منذ ولادته وحتى لحظة موته .
وقد عملت القوى الاستعمارية على تفتيت الأمة الاجتماعية الواحدة إلى كيانات (دول) متعددة ، وحتى متصارعة فيما بينها من خلال تغييب الانتماء الحضاري الواحد لأبناء هذه الكيانات ، إمعاناً في تجذير الصراعات لتسهيل بسط السيطرة عليها . ورغم أن كل كيان (الدولة) قائم من هذه الكيانات بات يشكل وحدة سياسية تم شرعنتها قانونياً من خلال هيئة دولية مهيمنة ومسيطرة (الأمم المتحدة) التي تفرض شرعية تجمّع أبناء كل (دولة) في كيانها وتحت رايتها كما تفرض سحب هذه الشرعية القومية والإجتماعية وتسلبها ، إلا أن هذه الدولة – المفترَضَة – اليوم لم تعد هي الوحدة المتفردة المكوّنة للعالم الذي نعيش فيه بعد أن باتت هناك منظمات اقليمية ودولية – حكومية وغير حكومية – تمارس في ظاهرها النشاطات الانسانية السياسية والقانونية والاجتماعية والعلمية والصحية وحتى الدينية والتجارية الاقتصادية والتي أهمها تلك النشاطات الثقافية التي تثبت أو تشوّه الهوية والحضارة . ولايخفى على أحد أن هذه المنظمات والكيانات التي باتت معروفة باسم (المجتمع الدولي) تسعى في جوهر أهدافها إلى إلغاء دور الدولة في استقلاليتها وفي قرارات علاقاتها الإنسانية والحضارية ، للإبقاء على تقسيم الأمم وتفتيتها ، وصارت هذه المنظمات القوة الأكثر تأثيراً في العالم والتي أخطرها تلك المعروفة بتسمية (الشركات متعددة الجنسيات) والتي يقول عنها (جوزيف كاميللري) في كتابه (أزمة الحضارة) :
” إن تزايد وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات دفع بميزان القوة في العالم إلى أن يتحرك على نحو ثابت لمصلحة هذه الشركات في الوقت الذي تتجرد فيه الدولة تدريجياً من سلطاتها في ممارسة الحكم بعد أن تحولت الشركات متعددة الجنسيات إلى قوة من القوى المتحكمة في مجرى التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وصار دورها واحداً من أكثر التطورات دراماتيكية في هذا العصر ” .
وتعود أهمية هذه الشركات إلى أنها مؤسسات قوى عالمية عظمى وتمتلك قدرات تنظيمية دقيقة ومادية هائلة وتقنية تكنولوجية خيالية تسعى من خلالها إلى إدارة العالم اليوم كوحدة مترابطة تؤدي إلى إلغاء دور (الدول) القومية والوطنية . ذلك لأنها تقوم على هدف تحويل العالم إلى سوق واحدة وموحدة وإلى تدويل المجتمع الانساني بعد تفتيته و سلخه عن حضارته وتجريده من تاريخه لتحقيق الهيمنة في الانتاج وفرض الاستهلاك . كما تسعى إلى السيطرة الكاملة على أنشطة الكيانات (الدول) الوطنية اقتصادياً وتحويلها إلى نشاط عالمي بإدارتها يتعدى سلطات الدولة (الوطنية) . وتحوَّل مدراء هذه الشركات إلى نموذج من نظام مركزي يدير العالم بشكل تنسيقي موحَّد ، لأنها تنفرد بانتاج السلع الأساسية المختلفة والمتراوحة بين سلع غذائية وتقنية تكنولوجية ، وحتى الصواريخ العابرة للقارات . وبلغت أحجاماً ضخمة وخيالية في الهيمنة على الانتاج الزراعي والصناعي حتى بات انتاج إحداها يفوق الانتاج القومي لدول القارة الأفريقية مجتمعة بكل مافيها من الثروات الطبيعية . وصار العالم اليوم يعيش حالتين متناقضتين تماماً بين حالة الحرب الدائمة وبين حالة البحث الطوباوي عن سلام يستحيل تحقيقه .
ويقول (هيدلي بول) في كتابه (الفوضى الاجتماعية) :
” إن سمة الفوضى ، وليست سمة النظام ، هي السمة البارزة في السياسات الدولية اليوم ، ومن الملاحظ غياب النظام كلياً عن السياسات الدولية ، وما الحديث عن نظام في العلاقات الدولية سوى رغبة مثالية غير قابلة للتطبيق لأنها لم تكن قائمة في أي وقت من الأوقات ” .
ويعني ذلك أن غياب مفهوم (الأمة) بانتمائها القومي والحضاري ، و السلطات المؤسسية ، وقواعد السلوك الإنساني قد أفقد الكثير من الدول المقدرة على حماية نفسها بنفسها وعلى إمكانية حفظ أمنها ومصالحها الوطنية والقومية في عالم تسعى فيه الدول العظمى إلى الهيمنة الكاملة التأثير .
وقد هوى الإنسان اليوم إلى أعمق أعماق الهاوية رغم بلوغه أقصى درجات التطور والرقيّ ، لأنه يبتكر أشد أنواع الأسلحة فتكاً و أكثرها قدرة على إحداث الدمار والإبادة الجماعية منذ (هيروشيما) ، في الوقت الذي يفشل فيه فشلاً ذريعاً في السيطرة على العديد من الأمراض أو الحدّ من شبح المجاعة وانتشار الأوبئة المُتعمَّد في أغلب حالات انتشارها . كما تسعى الدول العظمى لإشعال معارك ضارية ضد أمم أسست الحضارات الإنسانية من خلال اجتراح كوارث عالمية (عسكرياً و وبائياً) تنهي وجودها البشري بشكل نهائي وحاسم . كما يفتخر إنسان اليوم أيضاً بلهاثه نحو تكديس أضخم قوة مُدمِّرة في التاريخ الإنساني ويدّعي أنه يسعى بإخلاص من أجل إحلال سلام واستقرار في العالم . لذلك فإن كان لدى الإنسان اليوم الكثير الذي يفخر به من الانجازات ، فإن لديه الأكثر الذي يخجل منه لأن الإنسانية لم تعد قادرة على إيجاد حلّ نهائي لوقف الصراعات وحلّ مشكلات الحياة .
Discussion about this post