قراءة نقدية مزدوجة :”القصيدة والحبيب الأول”
المبدع:حمد حاجي(تونس)
القصيدة:”أحبك يا حمد بن علي”
المشاكس:عمر دغرير(تونس)
القصيدة:”كم ساءني حالك يا حمد بن علي”
ان قصيدتيْ المبدع والمشاكس تشترك شكلا في كون كل منهما اعتمد شكل القصيدة ذات الثلاثة مقاطع الرباعية.
أما على مستوى المضمون فكل من القصيدتين:
– تتحدث عن راقصة وان كانت من وجهة نظر مختلفة.
– تبدأ وتختم بنفس المعنى لكل قصيدة.
1- المبدع حمد حاجي و” الحبيب الاول”:
أسند المبدع لقصيدته عنوانا “أحبك يا حمد بن علي”وهو عنوان يشي بوجهين:
– وجه الحبيبة الجريئة التي تبوح بحبها رغم انها ريفية.
– وجه الحبيب النرجسي المعجب بنفسه حين اعتبرأن هذه الحبيبة لم تحب غير حمد بن علي وذكْرُ اسمه دليل على فخره بنفسه. “ونرجسيته”
والشاعر يتناص في هذه” النرجسية” مع الشاعر عمر بن ابي ربيعة في مغامرته مع الاخوات الثلاث حين جعل الوسطى تذكر اسمه والصغرى تشبهه بالقمر.
قال عمربن اي ربيعة:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى //قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيّمتها// قد عرفناه وهل يخفى القمر؟
اما مبدعنا حمد حاجي فيقول:
//كأنه ما غلب الوجدُ يوما عليها وشق حشاها سوى حمد بن علي//
ان المبدع عودنا بمبادرة المرأة بالبوح بحبها مما جعل هذه الريفية تبوح بحبها
فيقول:// وتلمحني فتحدث رفقاتها عن فتى صوّب السهم فصابها في مقتل//
والمبدع يتناص في ذلك مع المثل القائل:”ومن الحبّ ما قتل”.
اما الحبيبة فهي تتناغم مع الاخت الصغرى التي تيّمها عمر بن ابي ربيعة
وتتناص مع الحب من أول نظرة ويؤكد علماء النفس “ان الحب لاول نظرة
يشكل احساسا سريعا لدى الفتاة بالانجذاب نحو شخص معين لم يسبق لها ان التقته لاعجابها باحدى صفاته(1)
والحبيب يدعم في ذلك نرجسيته.
واذا المبدع يطلق العنان للمتعة بحواسّه واذا بحاسة السمع تحرك حاسة البصرحيث أن رجة أساورها ورنة خلخالها تلفت بصره ليراها” محل الصدارة في المحفل”
ان هذا الحب لاول نظرة استجاب له المبدع الحبيب بسرعة ليمزج ريقها المرّ عند غيابه لو استطاع بالعسل.
وباستخدام أسلوب الحوار بينه وبينها والحوار أحد أركان السرد يعمد المبدع الى تسريد الشعر وجعل القصيدة ترتقي الى التجربة الواقعية اضافة الى ذكر اسمه(حمد بن علي)فيقول:
// تساءلت عن حالها في غيابي فكشكش ريق أمرّ من قطرة الحنظل//
// ولو كنت أملك حكم السماء مزجته في عسل وتركت الكآبة والحزن لي//
وردّا عن سؤاله اعترفت له بان حنينها الى حبيبها الاو ل مستخدمة كناية من وسطها الريفي فكنّتْ عن نفسها ب”المشاتل الجبلية “وكنّتْ عنه ب”حال منابتها الاول”:// فقالت: الم تران المشاتل الجبلية دوما تحنّ لحال منابتها الاوّل//
وعند قولها هذا قد يتدخل القارئ وقد يعتبرها حرّكت مشاعره لينتشي نخوة باعتباره حبها الاول ويدعوها الى الغناء بالحب الاول فيقول:
فقلت لها…احضنيني طويلا وغني معي: انما الحب للعاشق الاول.
وهنا قد يعتبر القارئ ان”الحب للعاشق الاول” يتناص مع لامية أبي تمّام حين يقول: نقل فؤادك متى شئت من الهوى// فما الحب الا للحبيب الاول
كم منزل في الارض يألفه الفتى// وحنينه أبدا لأول منزل
وهو يغني معها “انما الحب للحبيب الاول” قد تحرّكت فيه حاسة السمع واستهوته بحّة صوتها التي أصبح أسيرا لها واستهوته كمغنية :
// ويأسرني في صوتها بحّة ورنين شبيه بحصد السنابل بالمنجل..//
وبين الشاعر والمغنية علاقة جدلية والعديد من الشعراء ذكروا المغنية في اشعارهم وأحبّوها :
– بشار بن برد الذي يولي أهمية كبرى لحاسة السمع وهوالشاعر الضرير فيقول في وصف مغنية:
وذات دلّ كأن البدر صورتها// باتت تغني عميد القلب سكرانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة // والاذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت أحسنت أنت الشمس طالعة//أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
فأسمعيني صوتا مطربا هزجا// يزيد صبّا محبّا فيك أشجانا
– ابن الرومي الذي عشق المغنية “وحيد” وهي أشهر مغنيات العصر العباسي
وقد امتلكت هذه المغنية بالاضافة لجمال الصوت جمال الوجه وفتنته فهام بها ابن الرومي حبّا ونظم فيها واحدة من أجمل قصائده(2) فيقول:
يا خليلي تيّمتني وَحيدُ// ففؤادي بها مُعنّى عميدُ
عيبها انها اذا غنّت الأحْ // رَارَ ظلوا وهم لديها عبيدُ
ان مبدعنا حمد حاجي لم يعشق مغنية فحسب بل عشق حبيبة جمعت بين فنّين:
فن الغناء وفن الرقص فيقول:
//وعادت الى باحة الرقص بين رفقاتها والقلب يعزف أهواك يا حمد بن علي//
=== يتبع ===
=== يتبع ===
ان المبدع ختم قصيدته بقفلة بنفس المعنى الذي أورده بالعنوان”أحبك يا حمد بن علي”/ أهواك يا حمد بن علي”.
وتكرار نفس المعنى هو فخر منه بهذا البوح الجريء من حبيبة مزدوجة الفن
هو شهادة منها ليدعم بها اعجابه بنفسه وبنرجسيته.
وعشق المبدع للراقصة يتناص فيه مع قصة فيكتور هيقو الذي وثق لنا قصة حب القسّ “فروللو” للراقصة ازميرالدا «notre dame de Paris »
هذا القس امام حبه المستحيل كرجل دين قتل خطيبها حتى لا تكون لغيره ان لم تكن له وبذلك تحوّل القسّ الى قاتل من أجل حبّ أعمى لهذه الراقصة.
وهل أكثر من هذا الحب المستحيل بين رجل الدين والراقصة؟
– أما الفيلسوف “بول فاليري” فيقارن الرقص بالقصيدة ..فنطق الابيات الشعرية
يعادل يعادل الدخول في رقص لفظي..ان الرقص”شعر شامل لفعل الكانات الحية
“الرقص هو الشعر الخاص الذي تنظمه أقدامنا”
يقول ملارميه:”الرقص جناحان”لانه يفصح للجسد عن خفته وحريته الجديدة
حرية الحركة والايقاع”(3)
لعل هذا يشرّع لمبدعنا عشق راقصة اضافة لكونها مغنية التي اعتبرته الحب الاول.
بيْد ان المشاكس سيردّ عليه ردّا مختلفا.
2- المشاكس عمر دغرير والحبيب الاول:
ان المشاكس أسند عنوانا لمشاكسته “كم ساءني حالك يا حمد بن علي”
ولئن كان المبدع يُسرّ الفخر و الاعجاب بنفسه فان المشاكس يُسرّ الألم والاستياء
ويحوّل المبدع من محلّ اعجاب بنفسه الى محل احتقار له حين يصفه في حالة مزرية يحتقره كل من يراه لتفنيد نرجسيّته واعجاب الراقصة المغنية به والتي اعتبرته الحبيب الاول من أول نظرة.
ولعل ابن حزم الاندلسي في طوق الحمامة يدعم نفْيَ الحب من أول نظرة
فيقول:”اني لأطيل العجب من كل من يدّعي انه يحب من نظرة واحدة.. ولا أكاد أصدّقه ولا أجعل حبّه الا ضربا من الشهوة”(4).
ان المشاكس يقارن بين حال المبدع في الماضي الجميل و حاله في الحاضر التعيس ولعل هذه المقارنة تجعل المبدع يستفيق ويستدرك وضعه الحاضر
فيقول المشاكس:
//على غير عادتك,أثوابك ممزقة وشعرك منكوش ولا شيء تحمله في الارجل//
كانما الحال تغني عن السؤال فقط ساءني ان أراك الآن كمن لا يعرفك من الاول/
//وقد كنت عزيز قوم وسيّدا في الحي وفي المدينة وفي البلد يا حمد بن علي// //تصول وتجول ولا أحد يقف أمامك وأجمل النساء تقول في السر وفي العلن :
انت لي..//
ان هذه الفجوة النصية التي تركها المشاكس للقارئ قد تجعله يتساءل عن سبب تحامل المشاكس على المبدع.
ان المشاكس قد جمع بين الذم والمدح للمبدع..
انه ذمّ لحالته الحاضرة التي أزرى بها الدهر بعيدا عن سعدى ومدح لصوْلته وجوْلته وسيادته وهيبته التي تجعل كل النساء يتقرّبن منه بكل جرأة(في السر والعلن).والمشاكس يستغرب من هذا التغير الذي طرأ عليه حتى أصبح ينعت بالأهبل.يقول المشاكس:
“ترى من غيّر أحوالك؟ ومن يقف وراء ما حدث حتى صرت تنعت بالأهبل…”
ان المشاكس ترك للقارئ تلك الفجوة النصية فقد يتعاطف مع المشاكس المتحامل على المبدع وقد يعتبره يُسرّ الغيظ والغيرة على المبدع وقد يعتبره يقوم بدور المحقق للوقوف على سبب وصوله الى نعته بالاهبل.
بعد تحقيق مع سعاد ومع الكل يصل المشاكس الى ان سبب وصوله الى هذه الحالة المزرية هو رغبته في قضاء وطر من راقصة في أكبر النزل .
هذه الراقصة التي قضت منه وطرا وسلبته ماله وامتصت دمه وتركته كالاثاث المهمل..انها درجة قصوى من الاحتقار لمبدع يفخر بنفسه ومعجب بها .
وكاني بالمشاكس يحوّل الفخر الى هجاء.يقول:
سعاد تعلم والكل يعلم انك انك تهت خلف النساء
وأضعت المنزل وكل من في المنزل…
حتى انك بعت كل ما تملك ومالا تملك رغبة في
الوصول الى راقصة في اكبر النزل..
وبعد ان سلبتك وامتصّت آخر قطرة من دمك
لفظتك حتى بتّ مثل الاثاث المهمل..
ان المشاكس لا يخفي عنا وَجَعَه وهو يُندّدُ بهكذا علاقة مع الراقصة بالنزل التي لها غاية تجارية بتحريك مفاتنها التي تستهوي العديد من المرتادين للنزل .
لعلّ المشاكس يضمر نظرة دونية لهذه الراقصة التي حركت في المبدع الاشتهاء وليس الحب والاشتهاء هو علاقة بين النوع بين الذكورة والانوثة وليس علاقة بين الشخصين.
وبالتالي فان المشاكس ينفي علاقة حبّ بين المبدع والراقصة وينفي ان يكون حبيبها الاول .
لعلها نظرة دونية من المشاكس لفن الرقص في هكذا مكان (النزل).
=== يتبع ===
=== يتبع ===
انها ثقافة سلبية لفن الرقص السائدة في المجتمع العربي وحتى في المجتمع الغربي.
و لنا في ذلك مثال الكاتب الفرنسي “بروسبار ميريمي في قصته “كارمن”
حيث ان الحبيب “دون جوزي” قتل حبيبته الراقصة “كارمن” لانها كثيرة الاغواء للرجال.
ولعل المشاكس بذلك يريد ان يجعل حبيبة المبدع الاولى هي سعدى الوفية له والتي لم تيأس من حبه ومن البحث عنه وتعتبره حبيبها الاول انتصارا لها ولوفائها له وصبرها رغم مُجُونه .
ان النزل مكان يجمع بين مجالس الخمر وما فيها من اغواء الراقصة للشاربين
الذين هم ضحاياها في تجارة الجنس والخمر وما في ذلك من عربدة .
ان المشاكس بدأ مشاكسته باستياء وختمها باستياء..انه استياء من عربدة المبدع الذي لن يكون واعيا بوضعه العاطفي ولا بوضعه الاجتماعي مع سعدى تماما كما بدا المبدع قصيدته وختمها بنفس بوح الراقصة المغنية بحبها لحمد بن علي.
لئن وثق لنا المبدع تجربة حب مع الراقصة المغنية التي جعلته يفخر بنفسه ويعجب بها لانها اعتبرته حبيبها الاول فان المشاكس اعتبر ان سعدى هي التي تعتبره حبيبها الاول وان الراقصة هي نزوة عابرة بمجالس الخمرولحظة اشتهاء لا علاقة لها بالحب.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة ل”الحبيب الاول”
بتاريخ:27/ 06/2024
المراجع:
https://alarab.co.uk>(1)
الحب من أول نظرة..النساء أقوى والرجل فريسة سهلة.
https://www.ultrasawt.com>(2)ثقافة
ابن الرمي: يا خليليّ تيّمتني وحيد-الترا صوت
https://alawan.bnt.nat.tn>08/12/2013 (3)
الرقص قدمان تفكران وخصر يعلم الحكمة
X.Albahlal_A (4)
الحب من نظرة واحدة.يقول ابن حزم في (طوق الحمامة)