في مثل هذا اليوم 26 يوليو1911م..
القوات الفرنسية تدخل مدينة فاس لإجهاض الثورة التي تشهدها المدينة إلى جانب العديد من المدن المغربية للاحتجاج على الظلم الذي يمارسه الاحتلال الفرنسي.
جُمعت القوات الفرنسية، ومعها تشكيلة من «الگوم» المغاربة، في بوزنيقة والرباط، ثم توجهوا في مسيرة إلى فاس بالضبط يوم 11 ماي 1911، وعبروا وادي سبو، وكان هذا يعني أنهم صاروا في نفوذ قبيلة الشراردة.
لكن ما وقع أن بعض القبائل اختارت ألا تقاتل الجيش الفرنسي المطعم بـ«الگوم» المغاربة، وفضلت الانتظار إلى أن وصلت القوات الفرنسية إلى مشارف مدينة فاس، بعد مسير عشرة أيام.
وحسب الأرشيف الفرنسي دائما، فإن أول اشتباك مع القبائل المغربية بعد الوصول إلى مشارف فاس، كان مع قبيلة بني مطير، في الخامس من يونيو، حيث قام رجالها بمهاجمة الجيش الفرنسي الذي بنى مخيما مؤقتا على مشارف فاس لفرض السيطرة على المدينة، وسرعان ما انضم مقاتلو قرية «أگوراي» إلى بني مطير، بالإضافة إلى قوات أخرى من منطقة الحاجب، لكي يشنوا هجوما على المخيمات الفرنسية.
كانت هذه بداية الحرب.
قبيلة بني مطير التي وصف الكولونيل «شابيل» رجالها بالمتوحشين
اسمه الكامل، الكولونيل «سانت شابيل»، وقد كتب مذكرات أطلق عليها «La conquête du Maroc». توظيفه لمصطلح «الغزو» حمل رسالة واضحة، خصوصا عند الاطلاع على الأحداث التي عرفتها البلاد ووثق لها هذا الكولونيل. إذ إن الأمر كان يتعلق فعلا بغزو كبير، استعملت فيه فرنسا كل الوسائل.
في هذه المذكرات، غطى الكولونيل أحداث ما وقع في المغرب ما بين ماي 1911 ومارس 1913، من منظور فرنسي بطبيعة الحال.
وما أكثر ما جرى في تلك الفترة من أحداث دامية تسبب فيها الجيش الفرنسي عند تنفيذ مخطط إخضاع المدن الكبرى للمغرب عسكريا، والسيطرة على الطرق الرئيسية وأهم منافذ البلاد.
عندما وصلت وحدات الجيش الفرنسي في بداية شهر ماي 1911 إلى ميناء الدار البيضاء، الذي كان وقتها يسيطر عليه الفرنسيون ويشرفون على إنجازه قبل حتى أن تُوقع معاهدة الحماية في مارس 1912، اختيرت مساحة واسعة على مشارف الدار البيضاء لكي تستقبل القوات الفرنسية.
سرى الخبر في المغرب، لكن لم يكن متوقعا أن تتجه هذه القوات الفرنسية إلى فاس ومكناس.
الكولونيل «شابيل» كان يعمل تحت إمرة الجنرال الفرنسي «كورو» الذي قاد الهجوم على فاس، بينما كان جنرال آخر اسمه «موانيي» يقود عملية إخضاع مكناس.
الجنرال «كورو» هندس وصول القوات الفرنسية لتطويق فاس، لكنه لم يتوقع أن يلقى مقاومة شرسة من القبائل المحيطة بالمدينة. إذ فوجئ الجيش الفرنسي بوصول فروع من قبيلة بني مطير، من نواحي منطقة الحاجب والقرى الواقعة بين فاس ومكناس، وخاضوا معارك دامية ضد الجيش الفرنسي، إلى درجة أن حسابات الجنرال أربكت واضطر إلى تقسيم قواته والانسحاب تدريجيا إلى أسوار مكناس لكي يشكل بها درعا عاليا للاحتماء من هجمات القبائل، والاستعداد لشن هجوم مضاد على فاس.
وهنا برز دور الجنرال «موانيي» الذي حاصر مكناس، وفاوض أعيان المدينة في يونيو 1911، لكي يعلنوا استسلامهم للقوات الفرنسية، دون أن تُسجل خسائر كبيرة في صفوف سكان المدينة.
وإذا كان الأمر في مكناس قد انتهى بإعلان سيطرة فرنسا على المدينة يوم 11 يونيو، بقيام الجنرال موانيي بجولة داخل أزقتها قبل أن يغادرها في اتجاه فاس التي كانت تشهد حالة غليان، فإن قبيلة بني مطير كانت تترصد قوات الجيش الفرنسي وتشن هجومات متتالية على وحدات الجيش التي كانت متبقية لحصار فاس.
إلى درجة أن هذا الكولونيل الفرنسي – شابيل- كتب في مذكراته أن مقاتلي قبيلة بني مطير من أشرس الرجال الذين رآهم في حياته، ووصفهم في بعض تقاريره العسكرية التي بنى عليها مذكراته لاحقا بالمتوحشين، بحكم أنه اختبر قدرتهم على القتال واستعدادهم للموت، مقابل إلحاق الأذى بأفراد المعسكر الفرنسي.
كان الأمر أكبر من انتقام قبلي قاده رجال بني مطير ضد فيالق «الگوم» المغاربة الذين قاتلوا لصالح فرنسا، بل كان الأمر تنفيذا للخطابات الحماسية التي تلاها علماء القرويين على السكان، وحثوهم على مواجهة الجيش الفرنسي.
هذه التعبئة النفسية، لعبت دورا كبيرا في صمود مقاتلي «بني مطير» أمام فرنسا، خصوصا وأنهم ألحقوا أضرارا كبيرة بالجيش الفرنسي، وهو ما جعل الجنرال «كورو» يرسل إلى باريس لطلب الدعم والمؤازرة. وهو ما جعل أعيان فاس يختارون فتح باب الحوار- سيما وأن ضحايا سقطوا في المدينة، بسبب المواجهات- لجعل الأمر ينتهي سياسيا.
لكن هذا لم يكن يعني أن فاس تقبلت وجود الجيش الفرنسي، بل كان أعيان المدينة يراهنون على انسحاب الجيش الفرنسي من فاس وعودته إلى الدار البيضاء. إذ إن المكانة الروحية لفاس، بسبب وجود جامع القرويين بها، جعلت تصور خضوعها للجيش الفرنسي أمرا محرجا.
وهذه النقطة بالذات كانت محركا لمقاتلي «بني مطير»، الذين قاتلوا فرنسا ببنادق تقليدية جدا، حيث استعملوا البارود في مواجهة رصاص فرنسا وقنابلها.
عندما قُصفت أضرحة فاس وحوصرت في عز صيف يونيو
بحسب شهادة الكولونيل «شابيل»، فإن سكان فاس كانوا يعلمون بخبر مجيء الجيش الفرنسي للسيطرة على المدينة، وهكذا فكر المحليون في تطويق المدينة لحمايتها من الجيش الفرنسي. لكن «شابيل» في مذكراته يؤكد أن الحشود التي كانت متجمهرة حول فاس، تفرقت بسرعة بمجرد أن لمحت الصفوف الطويلة لوحدات الجيش الفرنسي تقترب من المدينة.
وهكذا لم تسجل أي خسائر في الأرواح عند اليوم الأول لوصول الجيش الفرنسي إلى مشارف فاس، لكن قبيلة بني مطير كان لها رأي آخر، وهبت لإنقاذ فاس من المخطط الفرنسي، وخاضت حربا ضروسا ضد وحدات الجيش الفرنسي المعززة بفيالق من الگوم المغاربة.
هذا الأمر جعل علماء القرويين يدخلون في سجال كبير عن حكم قتل المغاربة الموالين للجيش الفرنسي.
قبيلة بني مطير هاجمت الجيش الفرنسي في مرحلتين، الأولى في الخامس من يونيو بعد أيام قلائل على وصول وحداته إلى فاس، وألحقت به خسائر مهمة. والمرة الثانية كانت يوم الثامن من يونيو سنة 1911، في وادي ويسلان، وقد تحدث الجنرال كورو في مذكراته عن الهزيمة التي تجرعها على يد قبيلة بني مطير. وحكى أيضا الكولونيل «شابيل» عن الجرحى الفرنسيين الذين سقطوا في وادي ويسلان.
لكن الرواية الفرنسية، رغم المسحة البطولية التي اكتسبها مقاتلو قبيلة بني مطير، تؤكد أن فرنسا كانت تمسك بزمام الأمور. والدليل أن وحدات الجيش الفرنسي بقيت متمسكة بضرورة احتلال فاس، واستغرق منها الأمر عاما كاملا لتنفيذ المخطط كاملا وإخضاع المدينة عسكريا، رغم كل المقاومة الشرسة التي واجهتها فرنسا في البداية.
في هذا الملف سوف نتطرق إلى جوانب أخرى، بغض النظر عما أورده الكولونيل «شابيل» أو الجنرال «كورو». إذ إن الأحداث التي عرفتها فاس، جعلت المغرب يدخل في مرحلة تفاوض سياسي مبكر، رغم أن البلاد وقتها لم تكن تتوفر على أحزاب سياسية ولا تمثيليات وزارية لمفاوضة فرنسا.
لكن الأعيان المغاربة النافذين، استعملوا علاقاتهم للتفاوض حتى يتم حل الأزمة سياسيا وليس عسكريا، مخافة أن تتكرر مأساة الدار البيضاء سنة 1907. المثير أيضا أن أعيان فاس الذين كان منتظرا منهم أن يدافعوا عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية، اختفوا ومنهم من رحل إلى طنجة الدولية، خصوصا وأن أغلبهم كانوا «محميين» يحملون جوازات سفر أجنبية.!!!!!!!