مختارات ..
=-=-=-=-=-=
الأسطورة ..
د.علي أحمد جديد
الأسطورة هي قصة قديمة أو مجموعة من القصص من الأزمان القديمة ، ولكنها ليست قصصاً حقيقية لأن فيها من الخيال الشعبي ماهو أكثر من الواقع . وهي قصث قد تكون متعلقة بأحداث محددة أو بأشخاص معيّنين ولذلك تبقى الاسطورة تشبه بمحتواها مايُعرَف بالحكايات الشعبية ، لأن أشخاصها وأبطالها غالباً مايكونون خارقين ،وأحداثها عبارة عن تفسيرات لظواهر طبيعية تختلف بمضمونها عن الواقع الحقيقي .
وتنتقل الأساطير من جيل إلى آخر ، و بسردٍ مختلف فمنها ما يتم سرده بقصائد شِعرية أو بروايات محكية أو مدوّنة ، إذ تهدف الأساطير إلى تقديم دروس لزيادة الخبرة أو لتسلية المُتلّقين . كأساطير الأوديسة وهوميروس ( Homer’s Odyssey) و قصص (الملك آرثر) لكريتيان دي تروا Chrétien de Troyes’ tales of King Arthur) .
أما الفرق بين الأساطير وبين الحكايات الشعبية فإن الأساطير تكون دوماً بأسلوب أدبي راقٍ بينما تكون الحكايات الشعبية باللغة المحكية ، وهي مجرد حكايات شعبية من وحي الخيال ولا علاقة لها بالواقع ، بينما تحتوي الأساطير على أحداث كتواصل الإنسان مع العوالم الأخرى ، ولكنها تبقى أقل بخيال أقل مما تحتويه الحكايات الشعبية حتى أنها قد تكون جزءاً من التاريخ الواقعي .
وتختلف الأساطير أيضاً بأنها ذات بُعدٍ فلسفي تنويري وميثولوجي Philosophie der Mythologie وهي كما صنّفها الفيلسوف الألماني (فريدريش ڤيلهلم يوزف شلنغ) صاحب كتاب “فلسفة الأساطير” . إذ يقول أنه هناك فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدّقها ، وبين أن وعيه لدلالاتها. ولو أن الإنسان عاش الأسطورة في بدايات وعيه ، فإنه يكون قد احتاج لزمن طويل قبل أن ينتقل إلى عملية تحليل الأسطورة وإدراك جذور ابتكاره لها عن طريق الشعراء ثم الفلاسفة فيما بعد ، واكتشف أنه إنما كان – من دون وعي واضح منه – يؤرخ في الأسطورة لنفسه ولكينونته ولوجوده في الكون . وفي هذا الإطار لابد وأن يكون وعي الأسطورة قد بدأ مع الفكر الفلسفي الإغريقي على الأقل ، لكن الأصح أن منهجة هذا الوعي وربطه بتاريخ الوعي والتجربة الإنسانيين قد وصلا إلى الذروة بدءاً من عصر النهضة الأوروبية ووصولاً إلى عصر التنوير ، حيث أفرد الفلاسفة مؤلفاتهم المهمة والتي من أبرزها كتاب “فلسفة الأساطير” للألماني (شلِنغ) والذي لم يكن الأشهر في أعماله وحسب ، بل كان واحداً من أشهر الأعمال تناولت فلسفة الأسطورة ، وتحديداً تناولها لشعور الإنسان بحاجته إلى اختراع الأسطورة وجعلها جزءاً أساسياً من حياته منذ بداية الوعي الإنساني وحتى قبل أن يخترع العقل البشري أي شيء آخر ، وقبل أن يتوصل إلى أية أفكار أخرى بما في ذلك الأفكار الدينية والعقائدية المعروفة اليوم . واخترع الحكاية التي كانت هي أسطورة في البداية . وعلى مرّ الزمن طوّر الإنسان علاقته بالأسطورة ، لتكون جزءاً أساسياً من تاريخ الوعي الإنساني وتعبيراً عن توق الإنسان إلى طرح أسئلته حول وجوده في هذا الكون وحول سرّ هذا الوجود ككل والقوى تسيّر هذا الوجود .
ويبدو أنه من البديهي أن يكون بحث الإنسان عن معنى الأسطورة قد تأخر كثيراً عن الزمن الذي وجدت فيه الأسطورة نفسها ، ولكن الأسئلة حول فلسفة الأسطورة قد طُرحَت منذ ما قبل (شلنغ) وغيره من الفلاسفة الذين تناولوا دراستها ونشأتها في التاريخ الإنساني عموماً . أما فلسفة الأسطورة وربطها بوعي الإنسان ومن ثمّ منهجة تاريخها كجزء أساسي من أجزاء الوعي الإنساني فقد كان من تحوّل الإنسان من مخلوق فطري وعشوائي إلى إنسان واعٍ وباحثٍ لفلسفة وجوده . وفي هذا الإطار ربما يكون كتاب شِلِنغ “فلسفة الأسطورة” واحداً من الكتب الأساسية التي ربطت الأسطورة بالتاريخ الإنساني .
إلا أن (شلنغ) لم يضع كتابه أصلاً على شكل نَصٍ منساب وذي وحدة عضوية واضحة ، لأنه كان مجموعة محاضرات ألقاها على جمهور عام في برلين عام 1842 بالمرة الأولى ، ومرة أخرى بين العامين 1845 و1846، وكان في ذلك الحين قد بلغ من الشهرة ما جعل جمهوراً غفيراً يُتابع محاضراته ويناقشه . وإذا كان (شلنغ) في الكثير من محاضراته الأخرى قد جابه من قارعه الحجّة بالحجّة ، فإنه كان بمحاضراته المتعلقة بالأسطورة وتاريخها وفلسفتها سيداً متماسكاً لا يبدو أحد قادراً على محاججته إلى درجة أن بعض المتشيعين له ، في ذلك الحين ، أكد بأنه قال الكلمة الفصل في ذلك المجال لأن منهجته كانت أمراً جديداً . لأن منهَاجَ (شِلِنغ) قد حدّد فلسفة التاريخ والأسطورة كعنصرين متكاملين في الشكل الذي أخذته محاضراته حين نشرت في كتاب مستقلٍ لاحقاً ، وقسّم العمل قسمين اثنين أولهما حول عقيدة (التوحيد) الذي شكل نوعاً من مقدمة فلسفية ثاقبة مهدت للجزء الثاني والذي كان الأساس في مجال بحث فلسفة الأساطير . وفي القسم الثاني ، بدأ (شلنغ) بتأكيد أن الأسطورة تخدم كأساس للوصول إلى فلسفة حقيقية يجب عليها أن تكون شيئاً آخر غير الصورة السائدة ، أي أن تكون شيئاً غير ذلك التتابع القصصي و عليها أن تحتوي على حقيقة خاصة بها وهي الحقيقة تكمن في واقع يوضح بأن الأساطير هي في الأصل (سيرورة إلهية – كونية) تتحقق داخل الوعي البشري ولا تنفصل عنه . ومبادئ هذه السيرورة هي نفسها مبادئ الكينونة الإنسانية ذاتها ، بمعنى سيرورة تطور العالم الشاملة والمطلقة . ومن هنا كان (شلنغ) يرى أن أي مسلّمة فلسفية اختزالية او استنباطية ، تقوم انطلاقاً من مختلف الابتكارات الأسطورية التي توصَّل إليها الوعي الإنساني ، وهي تصوّر الخالق بوصفه (إلهاً واحداً) أي إلهاً منطلقاً في ذاته ، وإن كان الوعي البشري قد وصل إلى هذا الأمر بأشكال وأساليب متنوعة . وإن الخالق ، تبعاً لهذا التصوّر ، هو قوة الكينونة المطلقة ، وهو التموضع الذاتي للكينونة (الروح) ، أو أنه يمثل التوليف بين الأبعاد الثلاثة مجتمعة . كما يرى (شلنغ) أنه من أجل الوصول إلى هذه الكينونة وهي في خضم الفصل ، يتوجب أن يكون ثمة فعل ذو تأثير قوي هو فعل الإرادة الإلهية :
“إن الخالق هو الذي يريد ، وهو الإرادة ، إرادة الكينونة” ، وتتجلى هذه الإرادة عن طريق سيرورةٍ خلّاقة لها امتداداتها في الوعي البشري .
ويرى (شلنغ) أن عملية الخلق الذاتي المتواصلة هي ما يدركه الوعي الإنساني في تطوره ويصوغها على شكل أساطير . لأن التاريخ في كينونته أكثر فلسفية من آلهة اليونان والرومان والهندوس القديمة التي سبقت الديانات التوحيدية . ويرى الباحثون المفسرون لأعمال (شلنغ) أنها تنتمي إلى التاريخ الخالص من تاريخ الحضارات أكثر من انتمائها إلى الفلسفة أو حتى إلى تاريخ الفلسفة نفسها أو إلى فلسفة الأساطير . لأن هذا الجزء من كتاب (شلنغ) هو الجزء الأضعف وإن كان الجزء الأقل إثارة للسجال من غيره من الأجزاء .
ولأن الأسطورة يسودها الخيال وتبرز فيها قوى الطبيعة في شكل آلهة أو كائنات خارقة للعادة فإن استخدامها يشيع في التّراث الشعبي لدى مختلف الأمم .
لأنها تحتوي أحداثاً بشرية مفهومة من الراوي والمتلقي على حدٍّ سواء وتأخذ مكاناً مميزاً في التاريخ البشري وتحتفظ بصفات خارجة عن المعقول لتعطي انطباعاً بالشيء المحتمل من هدف سردها .
وتتميزالأسطورة بعمقها الفلسفي الذي يميزها عن الحكاية الشعبية ويجعلها كما العلوم اليوم أمراً مُسلّماً بمحتوياته .
وربما تتغير الأساطير في ظاهرها خلال الوقت لإبقائها واقعية و متجددة . ويُنقَل الكثير من الاساطير على نطاق الشك ولايمكن تصديقها بأكملها كما لا تُنفى مصداقية صحتها بالكامل .
وماتزال الأسطورة و حتى اليوم مَعيناً وافراً بالرموز التي تمد الفنان والشاعر والكاتب بالأفكار والمعاني ، ولا يتوقف الأمر عند المبدعين وحسب بل استمال أيضاً علماء النفس ك(سيغموند فرويد) ليؤسس من أسطورة (اوديب) منهاج تحليله النفسي الشهير ، وكذلك الذين يؤلفون سيمفونياتهم الخالدة من وحي الأسطورة وآفاقها الواسعة وغير المحدودة !
كما لم يتوقف استلهام تلك الأساطير في الآداب الغربية وحدها ، بل تعداها ليشمل أصقاعاً كثيرة من العالم ومن ضمنها العالم العربي . إلا إن الاستمتاع بالآداب وبالفنون التي تعتمد الأساطير في أحداثها يبقى منقوصاً في توفير متعة المتلقي وذلك لافتقاد الكثيرين ومعرفتهم بتلك الأساطير واستيعاب مقاصدها ، مما يفوت الكثير من المتعة والجمال .
وتاريخياً فإن الأسطورة سبقت في ظهورها كل الفنون الادبية الأخرى .. لأن الكتابة والقراءة تأخرتا كثيراً عن ظهور الاسطورة . ولهذا فقد كان الاعتماد على الاساطير في مخاطبة الناس التي لاقت بأقاصيصها المقرونة بالخرافات قبولاً كبيراً وبصورة خاصة في البيئة الشعبية لدى كل المجتمعات ما ألهب خيال الناس الذين كانوا يتوقون إلى تلقفها بشوق بالغ ليتناقلوها بعد أن يزيدوا عليها الشيء الكثير من نسج خيالاتهم الخاصة . وكثيرة هي الاساطير التي مازالت حَيّةً حتى اليوم ومازالت تعيش في وجدان عشاقها مثل اسطورة (الزير سالم وعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والشاطر حسن وألف ليلة وليلة) .. وغيرها من الأساطير المتنوعة في مواضيعها والتي يمكن تقسيمها إلى أنواع ثلاثة و هي :
– الأسطورة الطقـوسية : التي تمثل الجانب الكلامي لطقوس الأفعال والتي من شأنها أن تحفظ للمجتمع رخاءه .
– أسطورة التـــكوين :
وهي التـي تصوِّر عملية خلق الكون بكل مافيه من المخلوقات .
– الأسطورة التعليلية :
التي يحاول الإنسان البدائي تبرير ظاهرة تستدعي إثبات نظرته عن طريق إسقاط الأسطورة على حَدَثٍ مُحدد حتى ولو لم يجد لها تفسيراً ما يدفعه إلى خلق حكاية أسطورية ، تشرح سر وجود مايعجز عن تفسيره .
لم يكن الإنسان البدائي يشغل عقله في تفسير الظواهر الطبيعية حيث كان يعتبر الشمس والقمر والرياح والبحر والنهر بشراً مثله . ولهذا ظهرت أساطير الأولين لدى البابليين والفراعنة والرومان والأغريق والمايا . وكانت الأسطورة نتاج التفسير الساذج عند الشعوب البدائية لظواهر الطبيعة المختلفة التي كانت تصادفهم في حياتهم اليومية ، بحيث كانوا يضعون لكل ظاهرة ولكل نشاط يقومون به آلهةً خاصة وينسجون حولها قصصاً خيالية خارقة .
لدراسة كل مايكون خارجاً عن المألوف وخارقاً للعادات في صفات الإنسان والحيوان والطير . وحاول الإنسان فهم سبب حدوث أمور معينة كفهم سبب شروق الشمس وغيابها !! و مسببات الرعد و البرق . وكيفية خلق الأرض التي يعيشون فوقها ، أوكيف وُجدت الإنسانية .. وأين وُجدت أولاً ؟!.
ولما نزلت الرسالات السماوية صار الإنسان يملك إجابات يقينيَّة ، واستنبط النظريات العلمية لكثير من هذه الأسئلة عن الكون المحيط به . إذ كان قديماً يفتقر المعرفة اللازمة لإعطاء الإجابات العلمية والعقلانية الوافية حول تلك الأمور . ولأنه كان يفتقر ذلك فقد كان يفسِّر الأحداث المتعلقة بالطبيعة على شكل قصص عن الآلهة بذكورها وإناثها وعن الأبطال الخرافيين !!. وكان لدى الإغريق قصة يفسرون بها وجود الشر والمشكلات الأخرى لأنهم يعتقدون بأنه فيما مضى كانت شرور العالم ومشكلاته محبوسة داخل صندوق مغلَق وهرب الناس عندما قامت بفتحه المرأة الأولى المسماة (باندورا) . ومثل هذه القصص تسمى أساطير .
أما دراسة الأساطير دراسة علمية ومستوفية فتُدعى (علم الأساطير) . إذْ لا تزال الأساطير حتى اليوم تُستخدَم في بعض أنحاء العالم لتفسير الحقائق العلمية الخاصة بعالمنا الحالي .
وتتعلق معظم الأساطير القديمة بكائنات مقدسة هي (الآلهة) . تتمتع الآلهة عند المعتقدين بها بقوى خارقة للطبيعة تفوق إلى حد كبير القوى البشرية بصورة خيالية ، وعلى الرغم من تلك القوى الخارقة المنسوبة إليها ، فإن الكثير من (الآلهة) الأبطال التي برزت في الأساطير القديمة (الميثولوجيا) لها خواصّها الإنسانية في تكوينها . فقد كانت (الآلهة) الأسطورية تنساق وراء العواطف كالحُبّ والحسد ، وتمرُّ بنفس التجارب الإنسانية ، كالولادة والموت . وهناك عدد من الكائنات الأسطورية التي تشبه البشر إلى حد بعيد . وفي كثير من الحالات فإن الصفات الإنسانية للآلهة تُبرِز المُثلَ السائدة في مجتمع ما . فالآلهة الطيبة ذكورًا وإناثًا تتمتع بصفات يُعجب بها المجتمع ، بينما تتمتع الآلهة الشريرة بالصفات التي يمقتها ذلك المجتمع بكل أطيافه .
ومن خلال دراسة الأساطير تمت معرفة كيفية تطوير الشعوب لأنظمتها الإجتماعية ولعاداتها المختلفة واساليب حياتها الم٨تلفة بين شعبٍ وآخر .
وعلى مدى آلاف السنين
كانت الأساطير مجرد خرافات وتخيلات وأوهام ومحاولات اجتهادية لتفسير أحداث كونية ولم تكن تستند إلا إلى الظن ، وصارت بالنسبة للعالم المتحضر اليوم وبعد ظهور الديانات والتقدم العلمي ، فلم تعد أكثر من قصصٍ للتسلية ، ونافذة للتعرف على جانب من حياة و تفكير الأقدمين .
وتُقسم الأساطير إلى مجموعتين اثنتين :
* أساطير الخلق .
* أساطير التعليل .
ففي أساطير الخلق محاولة لتفسير أصل الكون وخلق البشر وظهور الآلهة . أما أساطير التعليل فإنها تهدف إلى تفسير الظواهر الطبيعية . إذ أن الإسكندينافيين القدماء
-على سبيل المثال- كانوا يعتقدون بأن إحدى آلهتهم المسماة ـ ثور ـ كانت تصنع الرعد والبرق عندما تقذف بمطرقة في وجوه الأعداء . كما اعتقد الإغريق والرومان القدماء بما يشبه هذا التعليل ، وهو مايبرز في سفر العدد من توراة العهد القديم للكتاب المقدس :
“إلهكم السائر قدامكم هو يحارب عنكم” .
ولهذا فإن كل مجتمع يجترح لنفسه أعرافه وقِيَمَه الإجتماعية تنعكس على الديانة التي يعتقد ويؤمن بها وكذلك يكون الأمر بالنسبة لأساطيره الخاصة وأبطاله الذين يمثلون التراكمية الجمعية للاعراف التي يمارسها ويتمسك بها .
Discussion about this post