العقل أغلى ماعندك فاستخدمه إنه مجاني؟!
د. عبد العزيز يوسف آغا
////////////////////////////////////////ج////
اتصل بي أحد أصدقائي القدماء وقال لي: ماهي قصتك مع التنوير والترجمة والفلاسفة هذه الأيام ، فلم نعهد منك ذلك في السابق؟
فقلت له إنه الفراغ ياصديقي، ذلك الفراغ الذي حصل بعد التقاعد وقد صدق من قال: متقاعد = مت قاعد
وذلك إن لم تشغل نفسك بشيء مفيد .
وخلال سنواتي السابقة جمعت مكتبة لابأس بها، وبمناسبة رمضان الكريم والسهر وملاحظاتي لبعض الظواهر الاجتماعية السلبية، أحببت أن ألقي الضوء على إمر مهم سبقنا الغرب إليه منذ قرون عدة وهو: اشغال العقل والتفكير بكل مايحيط بنا قبل الإقدام على قرار ما وعدم الانسياق كالقطيع في الشراء والبيع وتقليد الآخرين تقليداً أعمى.
وكان هدفي في البداية ترجمة ماتعلمته في الجامعة عن أشهر الكتاب والمفكرين أمثال: فولتير وموليير وكانط وديكارت وهيجو وغيرهم، لكنني وجدت أنهم كلهم كانوا يحملون فكراً تنويرياً يدعو إلى استخدام العقل بما يفيد الإنسانية بشكل عام، وذلك أجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور وهذا ما أكد عليه الدين الحنيف.
إلا أن هولاء كلهم عانوا من الاضطهاد والرفض سواء من رجال الدين أو السياسيين، فمنهم من قتل ومنهم من رجم ومنهم من أحرقت مؤلفاته…
كل ذلك من أجل ماذا ؟! من أجل تنوير العقول؟ ومالخسارة أن يكون لدينا جيلاً يفكر في مصلحته ومصلحة أهله ومجتمعه والانسانية جمعاء؟!
وقد وقع تحت يدي عدة مقالات جمعت منها التالي:
لقد سعى المفكرون إلى إيجاد صيغ نهضوية تتعاطى مع الراسخ الموروث للتقدم بالثقافة العربية إلى المستقبل، وكانت العودة إلى التراث شرطًا أساسياً لديهم، ورأوا أنه بدون قراءة جديدة للتاريخ العربي لن نستطيع معالجة أزمات العقل العربي في حاضره ولا تهيئته للحاق بالمستقبل، فيما تداول باحثون آخرون القيم الغربية المنطلقة من ثورات أوربا الثقافية والصناعية، ورأوا فيها العلاج المجرب.
وما بين المناهج والمدارس الفكرية من يسار ويمين، ومن الماركسية إلى الليبرالية يتقلب الفكر العربي محاولًا إيجاد دواء لعلل التقهقر والتبعية.
وإذا كانت الأصولية تعني إبطال إعمال العقل في النص الديني، فالأصولية ضد التنوير الذي هو إعمال العقل، ليس فقط في مجال الدين، إنما أيضًا في جميع مجالات الحياة الإنسانية من صناعة وتجارة وتربية……
إذ إن مشروعية إعمال العقل في النص الديني للكشف عن المعنى الباطن، وهو ما يسمى بالتأويل، وتعريفه عند ابن رشد هو : «إخراج اللفظ من دلالته الحقيقية – أي الحسية – إلى حقيقته المجازية»، مع الحرص على عدم تكفير المؤول بدعوى خروجه عن الإجماع. وفي هذا المعنى قال ابن رشد: «لا يقطع بكُفر مَنْ خرج على الإجماع» ذلك في كتابه المعنون «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».
الرأي عندي إن إعمال العقل بشجاعة هو الاسلوب الصحيح للتغيير ، ويترتب على ذلك نتيجة حضارية هي أن العالم العربي ليس في إمكانه إزالة إشكالية التنوير العقلي إلا بالالتزام بقيم التنوير. هذا الالتزام لن يكون ممكنًا إلا بإحياء فكر ابن رشد بديلًا عن فكر ابن تيمية.
السؤال المطروح الآن هو: ما معنى اللحظة التاريخية التي نعيشها حاليًا؟ أي في أية لحظة من التاريخ نتموضع نحن كعرب ؟
هل حقًّا تجاوزنا مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، والتنوير إلى ما بعد التنوير، كما فعلت مجتمعات أوربا المتقدمة؟ أم أننا لا نزال متخلفين عقليًّا ومتأخرين فكريًّا؟ لماذا لم تعد تحصل أي مجزرة طائفية أو مذهبية في فرنسا أو ألمانيا أو سويسرا في حين أنها كانت شائعة طيلة القرون الوسطى بل حتى القرن الثامن عشر؟
بينما عانينا ومازلنا نعاني من بعض المتخلفين الذين استباحوا البشر والشجر والحجر تحت ستار الدين.
ينبغي علينا أن نعترف بأننا: لا نزال نتخبط في متاهات العصور الوسطى الطائفية التكفيرية.
ولاشك أن هناك فرق بين التنوير الوسطي المؤمن والتنوير المتطرف الملحد؛ الأول يمثله (فولتير، وجان جاك روسو، ومونتسكيو، وكانط) وسواهم من عمالقة الفكر، والثاني يمثله (ديدرو، والبارون دولباك، ونيتشه) وآخرون عديدون. ومجتمعاتنا العربية تفضل أن تكون مع التنوير المؤمن بالله والعناية الإلهية والقيم الأخلاقية العليا لتراثنا العربي العريق، بحيث الا يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوربي، ولا معاكسًا له على طول الخط؛ فهناك إيجابيات عديدة في التنوير الأوربي، وخصوصًا في بداياته عندما كان لا يزال بريئًا ولم ينحرف بعد. ولا بأس من استلهامها والاستضاءة بها وليس كصراع الأضداد الذي جرى في أوربا بين الفلاسفة ورجال الدين.
وختامًا فإن تخبطات الربيع العربي شيء كان إجبارياً وبتدخلات خارجية
وكان التصدى لها واجب لابد منه.
وبما أن التقدم له ثمن، فعلينا الإيمان بأنه: «لا بد دون الشهد من إبر النحل»؛ كما يقول شاعرنا الكبير المتنبي الذي اكتشف معنى الجدل وقانون التقدم قبل هيغل! وهذا يعني أن المرور بالمرحلة الأصولية على الرغم من صعوبتها وخشونتها شيء لا بد منه لكي نتحرر منها على طريقة: «وداوني بالتي كانت هي الداء»؛ كما يقول الشاعر الكبير أبو نواس.
ولهذا السبب أقول بأننا نعيش الآن لحظة تقدمية من التاريخ العربي، حتى لو كانت تبدو في ظاهرها تراجعيةً، بل فجائعية، إلا أنها مهمة كنقطة انطلاق جاءت بعد قرون من انطلاقة الغرب كما نوهت سابقاً .
وعلى المحبة نلتقي.