قراءة نقدية مزدوجة:
“الرباعية وثنائية اللذة والتوبة”
فقرة جمع بصيغة المفرد(مبدع /مشاكس/ ناقدة)
المبدع حمد حاجي (تونس)
الرباعية:” أرجع لله, أهجر كل المعاصي”
المشاكس عمر دغرير(تونس)
الرباعية:”ترقب معجزة”
الناقدة :جليلة المازني(تونس)
القراءة النقدية: “الرباعية وثنائية اللذة والتوبة”
1- المشترك بين الابداع والمشاكسة:
أ- المشترك على مستوى الشكل:
يتفق المبدع والمشاكس شكلا في اعتماد الرباعية ذات الرباعيات
و”الرباعية في الشعرهي منظومة شعرية تتألف من وحدات كل وحدة منها
تتألف من أربعة أشطر تستقل بقافيتها وتسمّى في الشعر الفارسي ب”الدوبيت”(1)
الرباعية “هي تقعيد رباعي العدد في قصائد ومقطوعات شعرية على غرار”رباعيات الخيام”والرباعيات شكل وايقاع لمعالجة أدوار حياتية عبر
نظم برؤية حياتية”.(2)
و أدب الرباعيات الشعرية يحيلنا الى رباعيات عمر الخيام الفارسي والتي تدعو الى اغْتنام الفرصة الحاضرة للمتعة واللذة.
بيد أن مبدعنا حمد حاجي قد ألبس الرباعيات ثوبا جديدا بأن أظفى عليها نقشة
خاصة به وقد تناغم معه المشاكس .
ب- المشترك على مستوى المضمون:
ان كلّا من الابداع والمشاكسة قد تأرجح بين اللذة والتوبة عن اللذة
– ان أدب الرباعيات الشعرية يحيلنا الى رباعيات عمر الخيام الفارسي التي “تدعو الى اغتنام اليوم وعيش اللحظة كما في مذهب التلذذية ويطلق عليه مذهب اللذة ومذهب المتعة وهو مدرسة فكرية تعتقد بان المتعة هي القيمة الجوهرية وبشكل مبسط تسعى لتحقيق أقصى قدر من المتعة للساعي وراءها وقد قام المؤلف الانجليزي الراحل “ادوارد فيتز جيرالد “بترجمة رباعيات الخيام التي كتبها الشاعر عالم الرياضيات عمر الخيام في القرن الثاني عشر”(3).
– أما عن التوبة عن اللذة فأي توبة سيعتنقها المبدع ويدعو اليها المشاكس؟
هل هي توبة ما نسب الى قيس ابن الملوح حين قال ؟:
خلاص يا قلبي عن الحب توبة// يكفيك ما عشته ترى الرأس شايبُ
أنسى سواليف الغرام ودُرُوبه // وأحْذف من القاموس كلمة حبايبُ
أم توبة جميل بثينة المزعومة حين يقول؟:
ودهرا تولّى -يا بثين – يعود
فنبقى كما كنا نكون وانتمو
قريب واذ ما تبذلين زهيد
يموت الهوى اذا ما لقيتها
ويحيا اذا فارقتها ويعود
أم هي توبة أبي العتاهية وزهده في الحبّ؟ يقول ابو العتاهية:
اني لأعْجبُ من حبّ يُقرّبني// ممّا يُباعدني منه ويُقصيني
لا بارك الله فيمن كان يخبرني//انّ المحبين في لهْو ولَذّات
ويقول أيضا: ما الدنيا بدار بقاء// يا طالب الحكمة من أهلها
المرء آفته هوى الدنيا// أيا عجب الدنيا لعين تعجبت
الاهي لا تعذبني فاني// مُقرّ بالذي قد كان مني
ومالي حيلة الا رجائي// ان عفوت وحسن ظني
أم هي توبة تشمل كل ما ذكره الشعراء؟
ان ثنائية اللذة والتوبة عنها وان اتفق المبدع والمشاكس في مظهرها فانهما اختلفا في جوهرها.
=== يتبع ===
=== يتبع ===
2- المختلف بين المبدع والمشاكس:
أ- المبدع حمد حاجي وثنائية اللذة والتوبة:
* اللذة والمتعة:
ان من جوهر الرباعية انها تحمل رؤية فلسفية حياتية والتي تجسدت عند مبدعنا بان الانسان يغنم من حاضره ثم يتوب فيقول في المقطوعة الاولى من الرباعية:
تحدثني النفس..
خذ حظك اليوم منها
ومن بعدها تُبْ على مهل القدر
وسرت لمقهى المدينة
في حيث تغنم من وقتها
راحة البال او لذة العمر
ان الفجوة النصية التي تركها المبدع(تحدثني النفس…)قد تثير فضول القارئ وقد يعتبر المبدع يتبع النفس الامارة بالسوء فيلهث وراء هواه وشهواته فيغنم من حاضره ملذاته وقد ينسى مستقبله وآخرته.
ان دعوة مبدعنا الى الغنم من لذّة اليوم تتناص مع فلسفة عمر الخيام في الغنم من الحاضر ملذاته حين يقول:
لا تشغل البال بماضي الزمان// ولا بآت العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضرلذّاته// فليس في طبع الليالي الامان
القلب قد أضناه عشق الجمال //والصدر قد ضاق بما لا يقال
يا رب هل يُرضيك هذا الضمأ // والماء ينساب أمامي زلال
أولى بهذا القلب أن يخفق// وفي ضرام الحبّ أن يُحرق
ما أضيع اليوم الذي مرّ بي// من غير أن أهوى وأن أعشق ان اغتنام المبدع حمد حاجي لذة الحاضر جعله يسير الى مقهى المدينة ليغنم براحة البال ولذة العمر مع الحبيبة وهناك تغزّل بجمالها(المبسم/ اللمى/ حلاوة الريق…) حتى انه اعتبرها غزالا لاتقارن بالبيض والحور والشقر والسمر فيقول:غزال من الطهر لم تترك الزين للبيض والحور والشقر والسمر
ولعل تلك اللوحة التي أرفقها بالقصيدة تجسد هذا الجمال الخيالي للحبيبة . ان المتعة التي يعيشها بجوارها في مجلسها جعلته يحسب مجلسها في جنة الخلد انها تفوق الشمس ضياء ثم ينزل الى صدرها للتغزل بنهديها:
على الصدر تفاحتان
ووحدي أردّد:
من قال ان الغواية في طلة الشجر؟
ويتغنى بجمال مقلتها التي تسكره تماماكما يسكر الريق والثغر فيقول:
وتدور بمقلتها سكرة الحسن, من قال ان المدامة في الريق والثغر؟
ان هذه المتعة وهذا التلذذ بجمال الحبيبة جعله يغنم من الحاضر وهذه الجنة قبل ان يفقدها عند اعلانه عن التوبة عن لذة الحبّ:
* التوبة عن لذّة الحب:
منذ عتبة العنوان”أرجع لله أهجر كل المعاصي” فان المبدع يعلن هُجرانه كل المعاصي.فاي معاصي يريد هجرانها؟
ويؤكد المبدع نفس المعنى الذي استهل به قصيدته وهو في ذلك استخدم معجمية دينية لاقناع القارئ بصدق توبته(أرجع لله/أهجر كل المعاصي) فيقول:
وقرّرت أرجع لله أهجر كل المعاصي
كأن الذي قد صار لم يصر
وأغلق بوابة القلب …
فالعمر ما عاد يحتمل لوْنا من الحزن والكدر.
كأني بالمبدع برجوعه الى الله قد حصر المعاصي في القلب والقلب هو رمز الحبّ وهنا قد يعتبر القارئ ان الحب الذي كان مصدر لذّته هو مصدر معصيته لله..هل الحب معصية؟
ان المبدع قد جسّد لنا في هذه الرباعية مذهب الحب الاباحي بالتلذذ بمفاتن الحبيبة الجسدية وما قد يكمن وراء هذه الاباحية.
ان هذا الجسد قد جلب له معصية الله فالله حلل الزواج وحرّم الزنا(الاباحية في الغزل).
ويختم المبدع رباعيته ذات الرباعيات الاربع بقفلة كسرت أفق انتظار القارئ
وانتهكت حرمة قراره باعلان التوبة والعودة لله بترك المعاصي.
ان القرار لم يكن بيده بل القرار كان بيد الحبيبة التي حسمت أمرها معه لترحل عنه لان علاقتها معه غير متكافئة بسبب تفاوت السنّ .
والمبدع هنا يقابل بين صغرها وكبره وبين مفاتنها الجميلة التي تغنّى بها وبين عجزه. يقول:واليوم ترحل يعجبها صغرها ومفاتنها.
وتعاندني ركبتاي ويعجزني كبري.
هنا قد يتدخل القارئ من خلال ما لديه من ذخيرة نصية ليتساءل:
– هل المبدع يثير قضية التكافؤ في السن لتكون اللذة في علاقة صادقة؟
– هل يمكن التسليم بما تحدّث عنه النقاد حول التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة؟؟؟
وبالتالي فأي توبة ذكرها الشعراء ينضوي تحتها مبدعنا؟(نتركها لتأويل القارئ)
في هذا الاطار سنرى رأي المشاكس:
=== يتبع ===
=== يتبع ==
ب – المشاكس عمر دغرير وثنائية اللذة والتوبة:
لقد جمع المشاكس هو الآخر بين مذهب اللذة المختلف عن الذي اعتنقه المبدع ومذهب التوبة التي تدعو اليه حبيبة المبدع الاولى “سعاد”:
*اللذة في الحبّ:
ان المشاكس يُنددُ بانغماس المبدع في الملذات ويذكره بماضيه الذي أهدره في التهافت عليها الى أن بلغ الكبر والعجز فيقول:
وتلاشت خلف الملذات ثروتك وترهل جسمك
وفقدت حاسة البصر.
ولئن عاش المبدع في الواقع لذّة الجلوس مع الحبيبة بالمقهى وتغزّل بكل مفاتنها باباحية كبيرة.
فان المشاكس قد جعله يعيش لقاء الحبيبة في المتخيل بما فيه من مرارة وكدر
وأكثر من ذلك جعلها طيفا يتراءى له في دخان سجائره فيتخيل صورتها ويسمع صوتها ويلمس فستانها العطر.
ان المشاكس حرم المبدع لذّة الواقع وجعله يسبح في خيال لن يتحقق فيقول:
في المقهى كل الكراسي شاغرة ووحدك في الركن
تتابع المشهد بالنظر…
غزالتك لم تظهر اليوم ولن تظهر بعد الذي سمعته منك
بالامس في السهر.
لقد كنت مهموما والقهوة المرة التي ترشفتها
دفعة واحدة لم تخرجك من الكدر..
وكدت تبوس الارض حتى تراها وتسمع صوتها وتلمس
طرف فستانها العطر..
تراءى لك طيفها في دخان سجائرك وخلتها تؤنبك
بكلام أقسى من الشرر..
ان المشاكس لم يذهب مذهب اللذة الذي اعتنقه المبدع ليغنم من الحاضر ملذاته بكل أنانية بل اختار الاخلاق مذهبا ليعتنق مذهب “النفعية”.
تنادي النفعية وهي احدى المذاهب الشهيرة في الاخلاق” وشعارها توفير أكبر قسط من السعادة لاكبر عدد من الناس ومن ثم فقد اختلطت اللذة بالمنفعة فكان دعاة مذهب الانانية وأنصار مذهب الغيرية..اذا كان مذهب الانانية يرى واجب الفرد بمقتضى البحث عن خيره الخاص بينما ترى الغيرية ان الواجب الخلفي للفرد يقتضي أن ينشد خير غيره من الافراد دون اعتبار خيره الخاص..
– فهل يمكن التوفيق بين هذين المذهبين المتعارضين؟
– ما موقف النفعية بشقيها( الاناني والغيري) من مسالة التضحية؟(4)
يرى المشاكس وانتصارا لسعاد حبيبة المبدع الاولى أنها تضحي من أجله وهي في ذلك وبقدر ما تفكر في نفسها بقدر ماتفكر في اسعاده يقول المشاكسّ:
تقول وفي صوتها بعض حزن:أسفي عليك
يا ليتني مت قبل هذا يا قدري
سعاد على العهد باقية..
جميلة هي الآن وكم حافظت على مفاتنها
وأنت اليوم بالكاد تتنفس من الكبر.
ان هذه التضحية من طرف سعاد جعل المشاكس يوفق بين حبها لنفسها وحبها لحبيبها انه التوفيق بين الانانية والغيرية بين الأنا والآخر ..انه مذهب النفعية.
ومذهب النفعية لا يلغي مذهب اللذة الكامنة في التوفيق بين اسعاد الذات واسعاد الآخر.
وفي هذا الاطار فان المشاكس لم يجعل التوبة نابعة من ذات المبدع بل نابعة من
ضمير سعاد والمشاكس لا يخفي عنّا مرجعيته الاخلاقية التي انطلق منها في مذهب النفعية.
* التوبة عن التكالب على اللذة:
يقول المشاكس:
تأخرت جدّا وجدّا هدرت في المتاهات أجمل
الفترات في العمر..
وكم نبهوك على ترك المعاصي وهجر الكبائر منذ الصبا والصغر..
ولكنك ما استمعت لغير شيطانك الذي أغراك
نحو الهلاك في الحفر..
أيّ معاص وأيّ كبائر ارتكبها المبدع؟
يقول المشاكس: سعادك على العهد باقية ولكنك خنت العهد
وعبدت النساء في البدو والحضر.
تأخرت جدا فسعدى لن تقبل أن تكون نواة تلقي بها
بعد ان تمتصّ لذّة الثمر.
انه ارتكب خيانة سعدى وعبادة النساء وتهميشها وامتصاص لذتها ورميها نواة
والخيانة وعبادة النساء تحيل على معصية وكبيرة من الكبائر وهي كبيرة الزنا التي يعاقب عليها الله عقابا شديدا والنص القرآني صريح في تحريم الزنا
يقول تعالى:”ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا”(الاسراء-32)
والايات في القرآن متعددة لتحريم الزنا.
ان مرجعية المشاكس الاخلاقية والدينية باستخدام معجمية دينية جعلته يطلب المغفرة للمبدع فتدعوه سعدى الى التوبة لانها هي المتضررة من معاصيه فيقول باسم سعدى: فكم رجوتك أن تتوب ولكن لغير الله
كنت دائما توابا
وللمحارم كنت في سفر
وباعتباره لم يتبْ عن معاصيه فسعدى وحدها من قد يغفر له معاصيه بمعجزة منها بعد موته.يقول:
فلا تحلم كثيرا وترقب معجزة فقد تعفوعنك سعدى
وتتلو على قبرك سورة الحجر..
ان المشاكس قد بوّأ سعدى منزلة الانبياء حين منحها سلطة المعجزة وفي المقابل
جعل المبدع في مرتبة العاصي الذي ينتظر الرحمة من سعدى.
وخلاصة القول لئن اتفق المبدع والمشاكس شكلا في اعتماد فن الرباعية ذات الرباعيات الاربع وفي تحديد محتوى الرباعية المحكوم بثنائية اللذة والتوبة مضمونا فانهما اختلفا في جوهر هذه الثنائية لذة وتوبة.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة مشتركا ومختلفا مظهرا وجوهرا لذّة وتوبة.
المراجع:
https://www.almaany.com>ar-ar(1)
تعريف ومعنى رباعية في معجم المعاني الجامع- معجم عربي عربي
https ;//ontology.birzeit.edu>term(2)
معنى “بوابة دوارة رباعية اطر” في المعاجم العربية والانطولوجيا https://www.aljazeera.net>literature(3)
كيف ألهمت رباعيات الخيام أنصار التلذذية في الغرب https://jartf.journals.ekb.eg>article..(4)
النفعية بين الانانية والغيرية