المعالج الموضوعي أثر ونتيجة
قراءة بقلم / محمد البنا
لنص * إنهم يقتلون البراءة *
الحائز على المركر الرابع في مسابقة القصة القصيرة دورة سليمان جمعة يونيو ٢٠٢٤
للقاصة الأردنية / منال العبادي
&&&&&&&&&&&&&&&&&
إنهم يقتلون البراءة
تناديها أمها وهي تلعب مع قريناتها من بنات مخيم اللجوء، وتسلمها لامرأةٍ أخرى تعرف بأمور النساء الخاصة .
أحضرت ذاك المعجون من السكر والليمون دلكته بين يديها القويتين.
تنظر ببراءة إلى المرأة بنظرة فاحصة ممزوجة بكل الاستغراب…قامت المرأة بتجريدها من ملابسها…وضعت المعجون على جسدها الهزيل الذي لا تزال معالم الطفولة تنضح منه…لم تتحمل الألم؛ شق الصمت صراخها؛ فرت من بين يديها؛
أمسكتها مرة أخرى…صرخات متتالية تتنازعها ضحكات أمها وتلك المراة.
انتهت منها، ارتمت متعبة وقد أُنهكت أنفاسها بعدما استنزف الصراخ منها كل قوتها،
أحضرت أمها الماء لتقوم بفركها وغسلها، فكت شعرها المجدول في ضفيرة سوداء مربوط في آخرها وردة حمراء …انساب شعرها على كتفيها.
بعد دلك وفرك؛ بدأت في تزيينها وتعطيرها من ذلك العطر الذي لا تستخدمه النساء إلا في الليالي الحمراء! ثم ألبستها ثوبًا أبيض ناصعًا مرصعًا بحبات اللؤلؤ .
فرحت الصغيرة، وقامت تدور وتدور حول نفسها.
خالفت الأم عادتها بجدل شعرها الأسود؛ تركته منسدلًا يعانق بياض كتفيها وفستانها.
كانت في أوج جمالها …نظرت لنفسها متعجبة وإن كانت عيناها لم تغفل عن البقع الحمراء المؤلمة على جسدها، ثم تعجبت بعد وضع طرحة على رأسها!
قالت الأم: أنت أجمل عروس اليوم !
– أأنا عروس؟
ضحكت النسوة…
– ستتزوجين وتصبحين امرأة وأم، وسيعتني بك زوجك، وسيشتري لك (غزل البنات)، تلك الحلوى التي تحبينها .
دفعها إليه الأب منتظرًا أن يدس في يده المبلغ المتفق عليه!!
يقف وراءه أطفاله الجائعين؛ فرحين ولا يعلمون كنه ما يحدث!
ودعت الأم طفلتها بدمعة حسرة ووجه شاحب مكسور، ولسان يلهج بالدعاء لها.
ركبت السيارة، تلتفت لتنظر عبر الزجاج
الخلفي، فجأة حاولت فتح الباب وهي تصيح
– أريد لعبتي …أريد لعبتي
أوقف الزوج السيارة وعاد، أخذ لعبتها من أختها الصغيرة .
السيارة تطوي المسافات طيًا سريعًا إلى أن وصلا إلى منطقة تضج بالبنايات الشاهقة.
امتدت يده لتحتضنها؛ نفرت من فعلته وابتعدت.
في البيت استقبلتها نسوة أخريات…
أغاني وزغاريد وأهازيج وزينات حولها، لم تفهم سوى أنها جلست على كرسي، بكت حتى غلبها النُعاس؛ أفلتت الدمية من يدها.
لم تشعر كم مر من الوقت !
بدأ يصل لمسامعها صوت امرأة تهمس بجوارها وتوصيه أن ينهي الأمر الليلة، ثم هزتها بقوة ونهرتها لتفيق….
لم تعِ عن ماذا يتحدثان!
دخلت إلى الحجرة مع ذلك الغريب الخمسيني الذي استجن أناملها الصغيرة بين أصابع يده الضخمة وسحبها خلفه، شعرت كأن قبضته أحكمت الوثاق على قدرها !
اقترب منها؛ تراجعت حتى لامس ظهرها جدار الغرفة، جذبها بقوة ثم مد يده وأشعل مصباح قريب، فتحولت الحجرة إلى اللون البنفسجي الخافت؛ كان لعابه يسيل كلعاب ذئبٍ يتهيأ للانقضاض على فريسته!
ضربته بقدميها وحاولت الفرار؛ اندفعت تصرخ وتطلب النجدة والخلاص ولكن…لا مجيب!
قذف بطفلة ذات عظام لينة إلى مضاجع الحياة القاسية….عاملها كأنثى وفي لحظات هتك براءتها وقُتِلت طفولتها،
حاولت أن تستجمع قواها وجسدها الهزيل ….تجمع ما تبقى منها لتنهض…
مرة أخرى أبدل الإضاءة لتصبح كاشفة،
نظرت إليه ودموعها تسبقها، أرسل لها غمزة وابتسامة عريضة تكاد تشق وجهه العريض
لم تفهم مغزاها!
كشف الغطاء عن طعام شهي؛ رائحته ملأت أركان الغرفة …تسلل الى أنفها بكل سحر لأنها لم تشم تلك الرائحة الشهية منذ بدأت الحرب .
مد يده لها بقطعة لحم؛ أشاحت بوجهها رغم جوعها الشديد، و لم تتقبل الأكل من يديه الضخمة التي أحكمت الإمساك بها في لحظةٍ سابقةٍ أشعرتها بالموت الزؤام، لم يهتم
وبدأ يلتهم اللحم والفاكهة، ويشرب العصائر، فيتناثر على شاربيه المفتولين فتاته
حتى بدا لها مخيفًا!
كانت تبكي خوفًا اعتراها وألمًا حل بها.
بدأت تنتحب وعويلها يصطدم بجدرانٍ صماء؛
ترجوه أن يعيدها لأمها، فضحك ولمعت عيناه وهو يغمزها مبتسما … عاندته، بدأ يجذبها مرة أخرى، حاولت أن تلجم ألمها بالصبر، فصارت تتشنج وتتلوى وتصرخ، جرّها كما تجر الشاة للذبح، وحينما انتهى منها؛ تركها تصارع ألمًا وسخطا، ثم استلقى محتلًا أغلب السرير، وظلت هي تمسك بطرف فستانها الممزق الذي تلون بلون الورد، فستانها الذي كان الشيء الوحيد الذي فرحت به.
نهشتها الحسرة على نفسها …وعلى فستانها الذي خالط بياضه حمرة؛ طغت كلما مر الوقت .
مقرفصةٌ في زاويةٍ ضيقة؛ تنظر له بخوفٍ و تراقب ضخامته و شكل شاربه الضخم، و صوت شخيرة يهبط ويعلو مع بطنه الكبير المرتفع.
تعاتب نفسها وأمها (لم يحضر لي ياااااأمي غزل البنات ).
بقلم : منال العبادي
المملكة الأردنية الهاشمية
&&&&&&&&&&&&&&
القراءة
_______
* أول ما يلفت النظر في هذا النص- إضافة إلى بساطته- الحس الطفولي الناضح بقوة، معلنًا سيطرته على روخ المتن، فلا يجد القارئ مناصًا من الانصياع التام، بل والتجاوب الوجداني مغ مجرياته؛ شديدة الحساسية إجتماعيًا ومجتمعيًا وقبلهما أنسانيًا أيضًا.
* أنها الطفولة حين تنتهك بأيدي أقرب محارمها – الأب – لا عن هتك عرض بتحرش أو ما شابه- ولكن ببيع جسد من لحم ودم ومشاعر لقاء دراهم معدودة!
ليس من مهامي كناقد أن أناقش الفكرة ولا مسبباتها، فذلك منوطٌ به لمن هم أهل اختصاص، كالساسة ورجال الدين والمسؤولين الاجتماعيين، لذا تقتصر مهامي على الوقوف على جمالية النص ومدى قدرة الكاتب على توصيف فكرته.
* اهتمت الكاتبة منال العبادي بالتركيز على تفصيل الكادر المشهدي من ميكانيزم وديكور وإضاءة، فالعدسة تصور والقلم يخط والمتلقي يتخيل ومن ثم يتفاعل،، وبالتالي يكون تلقائيًا جزءًا لا يتجزأ من متن النص وروحه، مالئًا بأحاسيسه فراغات النص.
* المعادل الموضوعي
_______________
لعل – في رأيي- تكمن جمالية هذا النص السردي البسيط في تقنيته، تنقيته التي أسست دعائم بنيته على المعادل الموضعي، كمفتاح متعدد المهام، فنجد أولا: الفتاة // المال…سلعة تباع وتشترى
ونجد ثانيًا : الفتاة // الدمية….قيمة ضئيلة متاحة للمتعة كما الدمية متاحة للهو.
ونجد أخيرًا : الفتاة // غزل البنات….الهشاشة وسهولة التشكيل وسهولة الهدم وسرعة التلاشي.
* اللغة والأسلوب :
_______________
اللغة بسيطة سهلة اعتمدت الألفاظ الوصفية، والأفعال الحركية كعنصرين لازمين للبناء المشهدي، لذا جاء الأسلوب السردي أقرب لفن السيناريو منه لفن السرد القصصي، ولا نجد في هذا عيبًا أو انتقاصًا للقيمة الأدبية للنص، استنادًا على مبدأ ” تداخل الأجناس “.
أمثلة : ( تنظر/ تنادي /تعرف/ تفهم/ تعجبت/ تنتحب/ تبكي)//( أحضرت/ امسكت/ سلمتها/ قامت / خالفت / تركت/ نهشت/ تتشنج/ تتلوى ).
* الخطاب السردي:
______________
نجحت الكاتبة في عرض تقليد اجتماعي – زواج القاصرات – وأطرت له هنا بداعي الفقر والعوز ( دفعها إليه الأب منتظرًا أن يدس في يده المبلغ المتفق عليه!!
يقف وراءه أطفاله الجائعين؛) في صورة خاصة، وفي عموميتها ” من يدفع المال يمتلك الجسد “.
* العنوان:
________
عنوان ممتاز معبر وشامل ودقيق، فليس الاب وحده هو المذنب، وليس الزوج الغني وحده هو المذنب، وإنما المجتمع ككل هم المذنبون، الذين قتلوا طفولتها.
وفي إشارة سيميائية رائعة أوجزت الكاتبة المبدعة عنوانها في دلالته المثلى (فستانها الذي خالط بياضه حمرة؛ طغت كلما مر الوقت/فستانها الممزق الذي تلون بلون الورد، فستانها الذي كان الشيء الوحيد الذي فرحت به )
الفستان الأبيض دالة براءة
لون الورد/ حمرة…دالة دم
الممزق …دالة قتل.
القاتل : مجتمع بأكمله
القتيل : طفولة.
مبروك للقاصة / منال العبادي فوز قصتها بالمركز الرابع.