في مثل هذا اليوم 5 يناير 1933م..
بدأ إنشاء جسر البوابة الذهبية على مضيق سان فرانسيسكو.
جسر غولدن غيت (بالإنجليزية: Golden Gate Bridge) أو جسر البوابة الذهبية، هو جسر معلق يعبر مضيق غولدن غيت الكاليفورني والذي يشكل نقطة التقاء بين خليج سان فرانسيسكو والمحيط الهادي. يربط الجسر بين مدينة سان فرانسيسكو الواقعة في الطرف الجنوبي من شبه جزيرة سان فرانسيسكو إلى مدينة سوساليتو الواقعة في الطرف الشمالي من شبه الجزيرة في مقاطعة مارين. بدأ البناء بتمويل من إدارة العمل والمشروعات (بالإنجليزية: Work Projects Administration؛ اختصاراً: WPA) وسط العديد من الصعوبات في عام 1933. واستغرق المشروع مدة أربع سنوات، حيث انتهت أعمال الإنشاء في عام 1937. يُعتبر اليوم أحد أطول الجسور المُعلَّقة في العالم.
كان أسلوب العبور الوحيد من وإلى كل من الضفتين المُقابلتين قبل بناء الجسر يتم عبر الزوارق. وفي عام 1820 ظهرت خدمة العبَّارات في المضيق، حيث أخذ بعض ملّاك القوارب ينقلون أناس ومتاعهم نظير مبلغ من المال، لكن هذه الخدمة لم تتسع وتتثبت فعلياً حتى عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر، عندما أخذت بعض الوكالات الحكومية تنقل مياه الشرب إلى سان فرانسيسكو. وفي عام 1867 ظهرت شركة سوساليتو للنقل البرّي والبحري، ومع مرور الوقت تغيَّر اسمها حتى أصبح شركة عبَّارات البوابة الذهبية (بالإنجليزية: Golden Gate Ferry Company)، واستمرت أكبر شركة عبَّارات في العالم حتى عشرينيَّات القرن العشرين. كان العبور من رصيف شارع هايد في سان فرانسيسكو إلى ساوساليتو يكلّف 1.00 دولار أمريكي للسيَّارة أو العربة الواحدة، ويدوم حوالي 20 دقيقة، ثمَّ تم تخفيض السعر فيما بعد لمنافسة الجسر. أدّى هذا الاحتكار لحركة النقل عبر قسمي المدينة إلى مطالبة الكثير من أبنائها ببناء جسر يصل سان فرانسيسكو بالبر الرئيسي، إذ أنها كانت لا تزال المدينة الأمريكية الكبرى الوحيدة التي تعتمد على خدمة العبَّارات، ولأنَّ معدّل نمو سكانها كان أدنى من معدّل النمو الوطني نظراً لانعزالها عن محيطها. أفاد الكثيرون بأنَّ الجسر لا يمكن بناؤه عبر مضيق يصل طوله إلى 2,042 متر (6,700 قدم)، لا سيَّما وأنّه يتميّز بتيَّارات مائيَّة قويَّة ومياه عميقة ولعصف الرياح العاتية فيه بالوسط.
كان جسر البوابة الذهبية إلى غاية عام 1964 أطول جسر معلق في العالم بطول 1.22 ميلاً (1970 مترا)، والآن هو المعلم الأكثر شهرة في سان فرانسيسكو وأحد رموزها. ويمكن التعرف عليه بسهولة من لونه «البرتقالي الدولي» وهندسته المعمارية المتميزة بالبرجين. وفقا لتصنيف الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين (بالإنجليزية: American Society of Civil Engineers)، فإن هذا العمل الفني هو أحد عجائب الدنيا السبع في العالم الحديث. ويذكر عنه في دليل الأسفار فرومرز: «قد يكون الأكثر جمالا، ولكنه الجسر الأكثر تصويرا في العالم».
يلقى العديد من الأشخاص حتفهم انتحاراً من على هذا الجسر أكثر من أي جسر آخر في العالم، حيث تم تسجيل أكثر من ألف حالة انتحار من على الجانب المواجه للخليج نظراً لأنه مفتوح للمشاة، أمّا الجانب المقابل فمغلق. ليس هناك من إحصائيَّة دقيقة تفيد بعدد الذين انتحروا قفزاً من على الجسر، نظراً لأن كثيراً من حوادث الانتحار لم يشهدها أحد. وكثيراً ما يقصد بعض الناس هذا الجسر لغرض الانتحار فقط، ومما لا شك فيه أنَّ عددا من الجثث لم يُعثر عليها على الإطلاق بسبب انجرافها إلى عرض البحر بفعل التيَّارات المائيَّة القويَّة. أظهرت إحصائيَّة من عام 2006 أنَّ 26 شخصاً فقط نجوا من محاولتهم الانتحاريَّة، لكن أغلبهم عانى من كسور بالغة بسبب ارتطامه بالمياه الباردة بسرعة شديدة، ومن بين هؤلاء لم يتمكن إلّا 4% من السير مجدداً. اقتُرحت عدَّة حلول للحيلولة دون قفز الناس من على الجسر، فزوَّد بعدّة هواتف كي يتمكن الناس من الاتصال بالشرطة بحال ضبطوا شخصا يحاول القفز، كما يجوب موظفون مختصون الجسر لضبط أي شخص يحاول الانتحار. كما يعاني الجسر من مشاكل جمّة كازدحام السيارات الخانق والضباب الذي يتسبب في كثير من الحوادث المرورية. كما أنَّ سوء الأحوال الجويَّة من شأنه أن يؤدي إلى إغلاق الجسر بوجه حركة المرور، وقد سبق وأن تمَّ إغلاق الجسر ثلاث مرَّات بسبب الرياح العاتية التي عصفت بالمضيق وهددت سلامة السيَّارات العابرة. وقد تمَّ نصب مرياح وسط البرجين على الجانب الغربي من الجسر لقياس سرعة الرياح.
أدت المعرفة العلمية المعاصرة بمخاطر الزلازل وتأثيراتها إلى قيام المهندسين بإجراء عدة تعديلات على الجسر عبر السنوات لجعله أكثر مقاومة للهزات العنيفة التي تشتهر بها ولاية كاليفورنيا الأمريكية، خصوصا وأن الجسر يقع على مقربة من فالق سان أندرياس مما يجعله عرضة للانهيار نتيجة أي زلزلة قوية، على الرغم من اعتقاد المهندسين سابقا أن هذا الجسر قادر على الصمود بوجه أي زلزال عنيف. وصلت تكلفة صيانة وتحصين الجسر ضد مخاطر الزلازل في بدايات القرن الحادي والعشرين إلى حوالي 392 مليون دولار أمريكي على أمل أن يصبح قادرا على الصمود في وجه أي هزة أرضية دون أن يتكبد أية خسائر أو أضرار جسيمة. بدأ المهندسون العمل على صيانة الجسر سنة 2005 على أمل الانتهاء من الأعمال بحلول سنة 2012 الموافقة لذكرى افتتاح الجسر الخامسة والسبعون، على أن جدول الانتهاء مدد حتى سنة 2015 بسبب صعوبة الحيلولة دون حدوث زحامات سير خانقة أثناء الورش القائمة.
لجسر البوابة الذهبية مكانة مهمة في الثقافة الشعبية الأمريكية، وقد ظهر في عدّة أعمال فنيَّة وأدبيَّة من أفلام وكتب وروايات. الصورة الرشيقة التي يرسمها الجسر كامتداد بين يدي الأرض ليست لها مثيل في كل الولايات المتحدة. بالإضافة لذلك، يُشكّلُ مزارا سياحيا حيث يستقبل الجسر سنويًا أكثر من 10 ملايين زائر.
التاريخ
حتى قبل إنشاء الجسر وإلى العصر الحالي، شهد المشروع أحداثا هامة رسمت الفرحة والحزن والدهشة والتعجب على وجوه الناس. لا يزال الجسر الذي احتفل في سنة 2012 بذكرى افتتاحه الخامسة والسبعين، رمزا وطنيا أمريكيا متجددا.
الحاجة للجسر
منذ بداية القرن العشرين، شهدت مدينة سان فرانسيسكو بعض الازدهار خاصة مع إعادة الإعمار بعد زلزال عام 1906. تطلبت إعادة الإعمار تطوير طرق المواصلات في جميع أنحاء المدينة، لتوسيع فرصها للتبادل والتمويل. بنيت مدينة سان فرانسيسكو في الشمال على طول المحيط الهادي على شبه جزيرة، في موقع تحيط به المياه من كل جانب: المحيط الهادي من الغرب، ومضيق «البوابة الذهبية» إلى الشمال (عرضه حوالي ميلين)، وخليج سان فرانسيسكو إلى الشرق (مساحته ما بين 1040 و4160 كم مربع)، إضافة إلى الخلجان الفرعية ومصبات الأنهار والمستنقعات. حاجة المدينة إلى تمديد روابطها بما جاورها فرض عليها بناء الجسور، في وقت شهد النقل البري نمو سريعا. إضافة لهذا، فإن أراضي مقاطعة مارين شمال المضيق قدمت فرصا مهمة للتوسع العمراني، بالنظر إلى المساحات غير المبنية والموارد غير المستغلة.
قبل تشييد الجسر (صورة تعود لسنة 1891).
قبل بناء جسر البوابة الذهبية أو «جسر الخليج» المعاصر له، كان الناس يستخدمون عبارات مائية للتنقل عبر المضيق. بدأ استغلال العبارات حوالي سنة 1820، وتنظمت الخدمة بجدول زمني للعبور في أربعينيات القرن التاسع عشر. وفي سنة 1867 أنشأت شركة سوساليتو للنقل البرّي والبحري، ثم تحول اسمها إلى «شركة عبارات البوابة الذهبية» بصفتها فرع من شركة السكك الحديديَّة لإقليم جنوب المحيط الهادي. حققت شركة العبارات أرباحا كبيرة وازدادت أهميتها الاقتصادية للمنطقة بعد فترة من إنشائها. كانت العبارات تؤمن صلة وصلة عبر البوابة الذهبية بين رصيف شارع هايد بيير (بالإنجليزية: Hyde Street Pier) عند جادة فان نيس في سان فرانسيسكو وسوساليتو في مقاطعة مارين، وكان التنقل بين المنطقتين يتطلب 20 دقيقة ويكلف دولارا واحدا لكل سيارة أو عربة، ثم خفض السعر في ما بعد لمنافسة الجسر الجديد.
لكن العبارات لم تستطع تلبية الطلب ما جعل حركة البضائع محدودة جدا بالمقارنة مع طاقة الجسر باتجاه مدن كاليفورنية أخرى مثل لوس انجلس أو أوكلاند. وأصبحت الحاجة لبناء جسر ملحة أكثر وأكثر، ما دفع برجل الأعمال تشارلز كروكر 1872 لتخطيط لذلك بالفعل.
حاول الكثيرون بناء جسر يربط بين طرفي مضيق البوابة الذهبية. وقد بقيت مدينة سان فرانسيسكو المدينة الأمريكية الكبيرة الوحيدة التي تورد أساسا بواسطة العبارات، والوحيدة التي كان معدل نموها يقل عن متوسط النمو الوطني. صرح عدة خبراء باستحالة بناء جسر على مسافة مستقيمة طولها 2042 مترا (6700 قدم)، وأيضا بسبب الأجواء المتقلبة والتيارات البحرية القوية وعمق المياه الذي يصل في بعض الأماكن إلى 113 مترا (372 قدما). وأكد الخبراء أن العواصف الهوجاء والضباب الكثيف سيعيقان عملية البناء.
ظهرت فكرة جسر يعبر مضيق البوابة الذهبية للمرة الأولى في مقال نشرته نيويورك تايمز في عام 1916. شكل المشروع تحديا كبيرا لما عرف عن تمتع مضيق البوابة الذهبية بقيود طبيعية هامة: التيارات الخطرة، والرياح الشديدة، والضباب البحري المحمل بالملح (مسبب لتآكل المعادن)، وهي عقبات رئيسية أرقت كل من حاول التعرض لإقامة مثل هذا العمل. في عام 1927 تم اختيار اسم للجسر، عندما نعته، المهندس «مايكل أوشوغنسي» من مدينة سان فرانسيسكو، للمرة الأولى عند إشارته لجسر العابر لمضيق البوابة الذهبية.
احتاج تنفيذ مثل هذا المشروع لمهندس عبقري في البناء. وقد لبّى النداء رجل واحد فقط هو جوزيف شتراوس، مهندس ألماني المولد كان يعيش في شيكاغو. كان شتراوس مهندسا مغمورا وحالما، وقد صمم في مشروع تخرجه جسرا بريا بطول 89 كم (55 ميل) لعبور مضيق بيرينغ. تخصص شتراوس في بناء الجسور، حيث حفل سجل إنجازاته بحوالي 500 جسر، ولكن حجم إنجازاته كلها لم تكن لترقى لحجم مشروع مثل جسر البوابة الذهبية. وبالرغم من عدم امتلاكه لخبرة في مجال الجسور المعلقة من قبل، فقد اقترح إعادة صياغة خطط التشييد لجعل جسر البوابة الذهبية جسرا معلقا معقدا للغاية، خاصة أنه كان الجسر الأطول آنذاك. بميزانية تعادل 18 مليون يورو في العصر الحالي وقوة إقناع تعادل غروره، تمكن شتراوس في النهاية من الحصول على امتياز تنفيذ المشروع.
بدأ العمل 5 يناير 1933، تحت إشراف إدارة الأشغال العامة (بالإنجليزية: Public Works Administration؛ اختصارا: PWA) ثم إدارة مشاريع العمل (بالإنجليزية: Work Projects Administration؛ اختصارا: WPA)، وبرامج حكومية أخرى ابتداءً من عام 1935، ضمن مبادرة من الرئيس فرانكلين د. روزفلت، كجزء من سياسته الهادفة لإطلاق أشغال عمومية كبرى. هدفت سياسة روزفلت خلق فرص للعمل في الأشغال العمومية، تمول بالأموال الفيدرالية للحد من آثار الكساد الكبير الذي أغرق البلاد في أزمة.
تم الانتهاء رسميا من بناء جسر البوابة الذهبية في مايو 1937، بعد أكثر من أربع سنوات من المغامرات والعوارض. جرى الافتتاح في 27 مايو، الذي أعلن رسميا «يوم للمارة».
شابت مدينة سان فرانسيسكو حالة من الاضطراب، حيث أغلقت معظم متاجر المدينة، وما ظل مفتوحا منها كان يعمل بعدد قليل من الموظفين للغاية. من الساعة السادسة صباحا، تجمع 18 ألف شخص على جانبي الجسر من أجل العبور لأولى مرة، وعند تمام الساعة المنتظرة انزاح الضباب، وكما هو متوقع، رفعت الحواجز لترك الآلاف من الناس معظمهم من الطلاب والشباب يزحفون على الجسر الذي بني حديثا. تظاهر العديد من الناس خلال هذا الحدث في محاولة لتسليط الضوء عليهم خلال هذا افتتاح تاريخي. هذا الافتتاح الذي «شل» ليوم كامل نشاط عدة مدن في البلاد. وهكذا كان دونالد برايان، رياضي ألعاب القوى في كلية سان فرانسيسكو جينيور أول من يعبر الجسر كله، في حين كانت فلورنتين كالجاري أول من أجرى عبورا ذهاب-إياب على عكازات.
ألعاب نارية احتفالا بمرور 75 عاماً.
بما أنه تم تخصيص يوم 27 مايو للمشاة، والذين كانوا أكثر من مائتي ألف، شهد يوم 28 مايو الافتتاح الرسمي للجسر المعلق في وجه السيارات. افتتح الجسر في هذا اليوم الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت بكبسة زر من واشنطن. وفي غضون ساعات، عبر 1800 سيارات جسر البوابة الذهبية، وفي وقت متأخر من اليوم، كان قد سجل عبور 32000 سيارة وكان 19000 من المشاة قد استوفوا حق العبور بين سان فرانسيسكو ومقاطعة مارين، اللتان ارتبطتا أخيرا. تميز مساء 28 مايو أيضا بعرض ضخم للألعاب النارية، وذلك تكريما للعمل الذي قام به جوزيف شتراوس.!!
Discussion about this post