( مكارم الأخلاق) … (للكاتبة حورية صالح قويدر) بينما كنت أتجول في سيارتي بأحدى المدن الأوربية، بعد فترة وجيزة من التسوق، ركنتُ سيارتي إلى جانب الرصيف، وغرقتُ بذكريات من الماضي، حيثُ الزمن الجميل، انتابني شعور للحنين لطفولتي، وتذكرتُ والدي رحمهُ الله، والدي الرجل الطيب والخلوق الذي كان يساعدُ الكبير والضعيف ويعطفُ على الصغير ويحسنُ للفقير ، وكيفَ زرعَ فينا النخوة والرجولة،
وزرعَ الحبُ والخيرُ والأحسان، صحوتُ من غفلتي وإذا بعجوز كبيرة رأسها مكشوف يكسوهُ الشيب، ظهرها منحني، بيدها عصا تتكأ عليها. وتحمل أكياس باليد الأخرى، تارة تمشي وتارة تقفُ وترتاح، ذهبتُ اليها مسرعاً، وحملتُ معها الأكياس، وسألتها أين تذهبين ياخالة؟ ردت علي بنشافة ووجهٌ عبوسٌ، إلى الطابق العاشر، صعدنا بالمصعد إلى الطابق العاشر، حيثُ منزلها ودخلتُ إلى بيتها ولحقتُ بها بالأكياس، لم أسمعُ منها كلمةُ شكر أو أبتسامة في وجهي، لكنني قلتُ في نفسي ماجزاءُ الأحسان إلا الأحسان، كل يوم كان طريقي من هذا الشارع، بحكم وظيفتي، وفي اليوم التالي بنفس الموعد، صدفتها تحملُ متطلباتها اليومية، فذهبتُ وساعدتها حتى وصلنا منزلها، دخلتُ وبيدي الأغراض ووضعتهم حيثُ طلبت مني، وهممتُ بالخروج، لكن العجوز تعبت فجأة وأصاباها هبوط الضغط، فأشارت إلى الدواء وناولتها دوائها، وذهبتُ إلى مطبخها لكي أطعمها أي شيء تتقوتُ بهِ
لم أجد الا قطعة جبنة وكيس من خبز التوست،
أخذتُ بعضُ الخُضار من الأكياس، وحضرتُ طبق من الشوربة، وقدمتهُ لها ونظفت الشقة كاملة، بوقتها قلت بنفسي سبحان الذي سخرني لهذا، كنتُ أتردد عليها أحياناً أساعدها، أنظفُ وأطبخُ وأعطيها دوائها،
لكنها لن تتفوه بأي كلمة، أستغربتُ من تصرف هذه المرأة،
ذات يوم وأنا في منزلها وأراعي شؤونها، سألتني
عن الأجرة ومن يعطيني أجرتي لخدمتها، هل أبني شربل هو من يعطيك أجرة خدمتك لي؟ رددت عليها لا انا لم اتقاضى أجراً من أحد،
أندهشت وتعجبت.! وقالت لي: آيعقل ان تعمل عندي بدون مقابل..! قلتُ لها : نعم اني أعمل لوجه الله تعالى، فقالت: عجبت من أمرك ايها الشاب.! أصبح عمري مايقارب الثمانون ولن أجد احداً يعمل دون أجراً، من أنت؟ وماهو دينك؟ ومن تعبد؟ أنا شاب مسلم وديني الإسلام وأعبد الله ولاأشرك بهِ أحداً، وهل دينك أو أسلامك او ربكَ يأمركَ أن تساعدني وأنا من غير مِلتكَ، ومن غير دينكَ، ماأجمل دينكَ! وماأروع رَبُكَ! ليتني خلقتُ على دينكم هذا، أبشري ياخالة بأمكانك أن تصبحي مسلمة، رحبت العجوز بالفكرة ونطقت شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمداً عبدهُ ورسولهُ، أصبحت هذه المرأة مسلمة بعدما تخطت الثمانون من عمرها، وتعلمت أركان الإسلام والإيمان، تقيم الصلاة وتصوم رمضان وتؤدي الزكاة، تعلقت بحب الله ورسوله، وطلبت مني أن أسكن معها لكي أرعاها، أمنت لي مسكناً خاصاً قريب منها، ووكلتني بكل شؤونها المالية بكل ثقة وأمان. كانت متحمسة أن تؤدي كل أركان الإسلام المفروضة، قلتُ لها أن تذهب إلى بيت الله وتؤدي فريضة الحج، قبل موعد الحج طلبت مني ان توصي لي بكل ثروتها لترد لي المعروف لكنني رفضتُ قطعاً باتاً، أريد أجري من الله، سألت كيف لي أن أعملُ خيراً؟ يكون لي ذخراً عند الله، اقترحت عليها أن تبني مسجداً وان تبني داراً للأيتام، ومشفى للفقراء والمساكين وباقي أموالها تتبرع لذوي الأحتياجات الخاصة، فرحت كثيراً وسعدت سعادة لاتوصف، ووكلتني أنا اشرفُ على كل هذه المشاريع، وأتى موعد الحج، سافرنا انا وهي عاملتها معاملة أبن لوالدتهُ وحملتها على ضهري حتى انهينا كل مناسك الحج، لكنها في يوم عرفة تعبت كثيراً، ومسكت بيدي وتوصيني بالمشاريع التي لم تكملها، بعد أن أستغفرت لي ولها، وترضت ودعت لي دعاء أم لأبنها، وفاضت روحها إلى باريها وهي تمسك بيدي، وبعد مراسم الدفن والعزاء، عدتُ حيثُ كنت، وأتممتُ كل ماطلبت مني الحاجة ماريا، رحم الله هذهِ الحاجة والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
(همسات حور العين)