الكواكبي شهيداً نتيجة أفكاره؟!
إعداد: د. عبد العزيز يوسف آغا
////////////////////////////////////////////
ولد عبد الرحمن الكواكبي لأسرة سورية يرجع نسبها إلى “آل البيت”، ميسورة الحال عريقة في العلم والأدب. وقد توفيت والدته “عفيفة بنت مسعود آل نقيب” (مفتي أنطاكية) وهو لمّا يتجاوز السادسة من عمره، فنشأ بأنطاكية في كنف خالته صفية التي كان لها أعظم الأثر في نشأته وصقل شخصيته.
الدراسة والتكوين :
//////////////////////
تعلم الكواكبي في المدرسة الكواكبية التي كان والده مدرسا فيها ومديرا لها، وأتقن الفارسية والتركية إلى جانب العربية، وكان له اطلاع واسع على سائر المعارف خاصة في المجال السياسي والفلسفي والقانوني حيث انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها.
الوظائف والمسؤوليات:
///////////////////////////////
و عندما بلغ الكواكبي الثانية والعشرين من عمره (عام 1876) عُين محررا للجريدة الحكومية “فرات” بقسميها العربي والتركي، وسرعان ما تركها ليصدر في حلب عام 1877 أول جريدة له باسم “الشهباء”.
لكن الأتراك -الذين كانوا يحكمون سوريا آنذاك- لم يتركوه ينشر من صحيفته أكثر من 16 عددا، فقد ظهرت فيها مواهبه الفكرية والبلاغية عبر مقالاته النارية الناقدة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكنه لم يستسلم فأسس جريدة “اعتدال” عام 1879، وواصل فيها كتابة مقالاته الحادة حتى أغلقت هي الأخرى. وقد تقلد عدة مناصب في ولاية حلب؛ إذ عُيّن عضوا في لجنتيْ المالية والمعارف العمومية ورئيسا فخريا للجنة الأشغال العامة فيها فتحقق في عهده الكثير من المشاريع الهامة التي استفادت منها الولاية، وفي عام 1892 عُين رئيسا لبلدية حلب، كما تولى إدارة مطبعة الولاية.
التجربة الفكرية:
////////////////////////
يعتبر الكواكبي عَلما من أعلام تيار الإصلاح في العالم الإسلامي خلال العصر الحديث، وكانت معركته الكبرى مع الاستبداد السياسي الذي سخّر حياته وقلمه وفكره لمحاربته والتوعية بأخطاره على الشعوب وتقدمها، وقاسى في سبيل ذلك الكثير من آلام الغربة والهجرة ووحشة السجن وعذاب الاضطهاد.
لقد كان شعور الكواكبي بالظلم ورهافة إحساسه بالحرية وعشقه الكبير لها دافعه الأول في مواقفه وآرائه المناهضة للسلطة العثمانية، وقد آزره في ذلك تأييد الناس الكبير له ومساندتهم لجهوده وجهاده، بوصفه حامل الراية الأبرز في التنظير لمقارعة الحكام المستبدين.
وعندما بلغت حدة الصراع بين الكواكبي -الذي كان يُطلق على نفسه لقب “السيد الفراتي”- والسلطة العثمانية في حلب ذروتها بدأت المكائد تُحبك ضده، فقرر الهجرة إلى مصر التي وجد فيها المناخ الآمن لطرح أفكاره.
إلا أنه بعد فترة قصيرة بدأت مهاجمته بحيث أنهم قد أفتوا بكفر الكواكبي وفكره، ماديًا وبشريًا ودعائيًا؟ لأنه أفتى بفصل الدين عن السياسة ما اُستغل ليفسر كدعوة لفصل الدين عن الدولة؛ وهو المعنى الكلاسيكي للعلمانية، لكن باستقراء كتبه نجد غير ذلك؛ حيث أنه انتقد بشدة العلماء الرسميين المعروفين اليوم باسم علماء البلاط، إذ أنه ما من مجتمع يسوده الاستبداد السياسي، إلا وجر إليه استبدادًا دينيًا لمزيد من السيطرة على الرعية، فيغدو الحكم ثيوقراطيًا؛ يكون فيه السلطان هو الملك المؤيد بالله، فإذا قتل، قتل بأمر الله، وإذا سرق إنما حاز بأمر الله، وإذا ما قرر فإنما بهداية الله وتوفيقه، دون الرجوع إلى الشعب فلا حسيب ولا رقيب.
والجدير بالذكر أن الكواكبي ولد في فترة ازدهر فيه الفكر القومي في أوروبا وانتقل منها إلى الدولة العثمانية التي حولت القومية إلى عنصرية بغيضة فرضت سياسة التتريك على العرب رغم أنهم يشكلون ثلثي سكان الدولة، فهضمت حقوقهم في المناصب والارتزاق مقارنة مع باقي القوميات، وفرضت الجندية على العرب دون غيرهم لا لشيء إلا لكونهم الوحيدين الذين يمكنهم تحمل ضنك العيش.
بل وتطور الأمر في دولة الخليفة إلى أن صارت كلمة “عرب” مرادفة للرقيق ولكل حيوان أسود.
رغم ذلك لم يرد الكواكبي على هذه العنصرية البغيضة بمثلها، وإنما دعا إلى وحدة الصف العربي على اعتبار أن العرب مادة الإسلام، وأقدم الأمم اتباعًا لأصول تساوي الحقوق وتقارب المراتب الاجتماعية ولكون اللغة وسيلة للوحدة، كما دعا لتنصيب خليفة عربي من باب حكم الأمة نفسها بنفسها. لكن الذين يدّعون أنهم حماة الدين، والساهرون على حمايته لم ولن يتقبلوا فكرة الوحدة العربية، لأنهم مع الأسف غير قادرين على تقبل هذه الآراء الحرة والبناءة.
فحاربوه واتهموه بالليبرالية والماسونية والعلمانية ، لكن في حقيقة الأمر إن الذين حاربوا فكر الكواكبي هم امتداد لزبانية الاستبداد الذين خطفوا روحه، وهم أيضًا من نذروا أنفسهم للتطبيل لقرارات الحكام، دون اعتبار لمدى موافقتها للشرع الذي يدعون حمايته، وهم الذين فتحوا نيران خطبهم للتحريض على حصار جيرانهم العرب، فلم يستحضروا قيمًا دينية، ولا مبادئ إنسانية، ولا وشائج قومية طالما جمعت بين العرب.بل كانوا أيضاً وقودًا للثورات المضادة التي أجهضت أحلام الملايين بالحرية .
ومما لا يدع للشك مجالًا ، أنهم بمحاربة الكواكبي يحاربون الفكر الحر، والمبادئ الديموقراطية، ويصرون على بقاء الشعوب قطعاناً يقودها من يشاء بالقوة والغطرسة.
ويلخص الكواكبي رؤيته للحرية ومشكلات الاستبداد بقوله إن الهدف من الديمقراطية والحرية والعدالة هو خدمة المجموع وسعادته، وكان يرى للديمقراطية مضمونا اجتماعيا، ويراها التزاما للإنسان إزاء قومه ومجتمعه بقدر ما هي تحرير لهذا الإنسان بشكل مطلق.
ونتيجة لكتاب أم القرى وطبائع الاستبداد صدر الأمر باغتياله .
لقد عذب الكواكبي وسجن ونكل به وذلك لأنه كان يحمل فكراً متحرراً أراد به تغيير وضع أمته من جهل التخلف إلى نور المعرفة والحرية والعدالة الإنسانية.