الكارما ..
د.علي أحمد جديد
” فَمَنْ يَعمَلْ مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهْ ، وَمَنْ يَعمَلْ مِثقالَ ذَّرَّةٍ شَرَّاً يَرَهْ ”
الزلزلة 8-7
(الكارما) مُصطلَحٌ يرجع في أصول نشأته إلى الديانتَين (البوذيّة ، والهندوسيّة) ، ويُقصَد به ردّ فعل القوّة التي تَنتُج عن تصرُّفات الشخص ، سواء كانت خيراً أو شرّاً ، وتؤثِّر في حياته . كما يُنظَر إليها على أنّها الطريقة التي تتمّ من خلالها مُكافأة الفرد أو مُعاقبته على أعماله السيِّئة بمِثلها ، وأعماله الجيِّدة بمِثلها أيضاً . ويمكن القول أن كلمةّ (الكارما) تعود في أصلها إلى اللغة السنسكريتيّة ، وتُعتبَر مفهوماً عقائدياً رئيسيّاً ومُهمّاً في الديانات الشرقيّة القديمة . وعلى الرغم من اختلاف خصائصها بين ديانة و أخرى ، إلّا أنّ الفكرة الرئيسيّة للكارما واحدة ، وهي الفكرة الناشئة عن قاعدة “السبب والنتيجة ، أو المُقَدِمات والنتائج” . بمعنى أنّ كلّ فكرة ، أو كلمة ، أو عَمَل ينجزه الفرد سيرتدُّ تأثيرُه عليه في وقت غير معروف مُستقبلاً . فإذا كان عَمَله جيِّداً فسيكون تأثيره مُفيداً له في المُستقبل ، وإذا كان سَيِّئاً ، فسوف يكون تأثيره المستقبلي ضارّاً وبشكلٍ مُؤكَّد . بمعنى أنّ العمل غير الأخلاقيّ سترتد نتيجته
(كارما سيِّئة) ، والعكس صحيح . كما أن العلاقة بين العمل (المُقَدِّمة) والعاقبة (النتيجة) من أهمّ الأمور التي تَصِفُ معنى (الكارما) بِدِقَّة . وكذلك فإن (الكارما) تبحث في نوايا الشخص ، وفي الأسباب التي دفعته إلى هذا العمل ، وذلك في العديد من العبارات الغربيّة الدينيّة منها وغير الدينيّة والتي تُعطي معنى (الكارما) نفسه . مثل عبارة العُنف يُولِّد العُنف (violence begets violence) ، وعبارة تدور الأفعال وترتد على صاحبها (what goes around comes around) .
ولم تكن (الكارما) تُمثِّل أيّ بُعْد أخلاقيّ في فترة ما قَبْل الميلاد ، ولكنها كانت تُشير فقط إلى الطقوس الدينية الهنديّة (الهندوسية والسيخية) ، وإلى القرابين والأُضحيات . وكان أوّل ظهور لمصطلح (الكارما) في المجال الأخلاقيّ قد ورد ذِكرُه في (الأبانيشاد Upanishads) الذي هو نوع من (الفيدا Vedas) أو الكُتب المُقدَّسة التي تهتمّ بدراسة فلسفة الوجود ، حيث عبَّر اللاهوت الهندوسي (ياجنافالكيا Yajnavalkya) في فترة ما قَبل الميلاد عن المُعتقَدات التي تقول بأنّ “الرجل يُصبِح جيِّداً بعمله الجيِّد ، وسيِّئاً بعمله السيِّئ” . ومنذ ذلك الوقت صارت (الكارما) تُشير إلى الجانب الأخلاقيّ من خطابات اللاهوت في الديانتَين الهنديّتَين
(البوذيّة ، والجاينيّة Jainism) .
وأصبحت (الكارما) تمثّل البُعد الأخلاقي للفرد في الديانة الهندوسية في ما يُطلَق عليه تسمية (إعادة الميلاد) ، حيث تَفتَرض نظريّة (الخلاص) الهندوسيّة ، أنّ حياة الفرد المُستقبليّة ، والتي تُسمَّى (حياة الولادة) تتأثّر بأفعاله خلال حياته الحاليّة ، ولذلك فإنّ الكارما تُعطي الفرد حافزاً كي يعيش حياة أخلاقيّة تعتمدُ تحسين الحياة المستقبليّة ، بالإضافة إلى تفسير الوجود البشريّ . وتَنظُر الفلسفات الهندوسيّة إلى (الكارما) على أنّ تأثيرها على صاحبها سيكون شخصيّاً بحتاً ، بمعنى أنّ الشخص بأفعاله لا يمكن أن يكون له أي تأثير في مُستقبَل شخص آخر .
ورغم أنّ (الكارما) في مفهومها نظريّة خاصّة بالفرد ، إلا أنّ هناك ديانات هنديّة ترى بأنّ (الكارما) مُشترَكة في تأثيرها المجتمعي ، وتُؤمِن بما يُسمَّونه(عقيدة الجدارة) حيث تُظهِر أنّ الفرد يمكن أن يَنقُل أعمالَه الجيِّدة إلى الآخرين ، وأنّ الأعمال التي ينجزها الأشخاص الأحياء تُؤثِّر في الأموات أيضاً . كما أنه هناك العديد من العبادات والأمور التي يستفيد منها الأموات بعد تأديتها من قِبَل الأحياء ، كأداء (الحجِّ) عنهم مثلاً أو دفع الصدقات .
وإنّ من يُؤمنون بالكارما يرون أنّها لا تُوجَد عند جميع البَشَر ، رغم أنّ تأثيرها قد يكون في المجموعة كَكُلّ ، فمثلاً إذا كان لدى واحدٍ من ركاب الطائرة (كارما) سيِّئة فإنها ستُؤدِّي إلى تحطُّم الطائرة بكل ركابها ، وإن كان معه آخرون لا تلاحقهم هذه (الكارما) السيئة . وإذا كان بينهم فردٌ يحمل (كارما) تُعِينه على الحياة ، فقد ينجو هذا الفرد من تحطُّم الطائرة لوحده ، أو قد ينتهي به الأمر إلى عدم الذهاب في الرحلة أصلاً .
وعلى كلّ شخص عموماً أن يتحمّلَ نتيجة أفعاله وأخطائه وِفقاً لقانون الطبيعة . وأن يحاولَ التخلُّصَ من تأثير(الكارما) السيئة ، والأشخاص الذين تَحكُمهم غرائزهم ، ويُعطَوْن الحرّية الكاملة لرغباتهم بعدم اتّباع الأهواء والرغبات السيِّئة ، تُصبح سيطرتهم على الحياة الخارجيّة أفضل ويَقِلُّ تأثير(الكارما) السيئة لديهم شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى في نهاية الأمر .
لأنّ كلّ شيء في الحياة له قانونه ، فإنّ (الكارما) هي قانون العالَم الروحيّ ، لأن مبدأ عَمَل (الكارما) يأتي من خلال القانون الذي يُحمِّل كلَّ فَردٍ مسؤوليّة أعماله وأقواله ، وحتى النوايا في تصرُّفاته . وبما أنّ كلَّ فَرد مسؤول ، فإنّ دور (الكارما) في جَعل الفرد يحصد نتيجة أعماله ، يشكّل أهميّة كبيرة ، لأنّه سيحصدُ نتائج ما قام بفِعله وحده .
كما أنّ قانون (الكارما) يُعتبَر سُلطة عُليا تتحكَّمُ في شخصيّة وعَقْل الفَرد المؤمن بها ، كما تحدِّد طبيعة الدروس التي يجب أن يتعلَّمها الفَرد من نتائج أعماله وتصرُّفاته ، ولذلك يعتبر الهدف من وجود الاعتقاد الإيماني بالكارما أن نتعلَّم ونكتسبَ حياة صحّية ، ونبنيَ العلاقات الجيِّدة والأخلاقية مع الآخرين .
كما يُعتبَر قانون (المقدمة والنتيجة) أساس فلسفة (الكارما) وعملها ، بمعنى أنّ الفرد في كلِّ مرّة يتصرَّف فيها تصرُّفاً مُعيَّناً ، فإنّ ذلك يُنتِجُ قضيّة لها آثارها المؤكَّدَة عليه في المُستقبل ، لأن الأسباب والمقدمات تؤدي النتائج الحتمية .
وعلى المدى البعيد ، يُشكِّل ذلك الاعتقاد شخصيّة الفَرد بصِفاتها السلبيّة ، والإيجابيّة ، وبما أنّ كلَّ شخصٍ مسؤول عن تصرُّفاته وأقواله ، فإنّ كلَّ فَرد لديه (الكارما) الخاصّة به ، ووِفقاً للفلسفة الهندوسيّة التي تُؤمن بأنّ هناك حياة أخرى بعد الموت (التناسخ) ، فهي ترى أنّه إذا كانت (كارما) الشخص جيِّدة ، فولادته بَعد الموت ستكون جيِّدة ، وإذا كانت سيِّئة ، فإنّ حياته بعد الموت لن تكون بالمُستوى الجيِّد الذي يتمناه ، بل إنّه سينال حياة بمستوىً أقلّ .