في مثل هذا اليوم 2 مايو1944م..
. إعلان بريطانيا الحرب على العراق لوقوفه إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وتعرف بالحرب الأنجلو-عراقية.
الحرب الأنجلو-عراقية هي حرب اندلعت بين بريطانيا وحكومة الثوار في المملكة العراقية التي يقودها رشيد عالي الكيلاني خلال الحرب العالمية الثانية. بدأت الحرب في 2 مايو وانتهت 31 مايو 1941. أدت الحرب إلى إعادة احتلال القوات البريطانية للعراق وعودة وصي العرش عبد الإله بن علي.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين أصبحت الأراضي العراقية خاضعة للانتداب البريطاني الذي استمر حتى عام 1932 حيث منحت بريطانيا المملكة العراقية استقلالها. وكانت بريطانيا قبل ذلك قد وقعت اتفاقا مع العراق عام 1930 يقضي بالسماح للبريطانيين بإنشاء قواعد عسكرية بالعراق والسماح لها بحرية التنقل دون قيود عبر الأراضي العراقية بناء على طلب يقدم للحكومة العراقية.
ثورة رشيد عالي الكيلاني
Crystal Clear app kdict.png مقالة مفصلة: ثورة رشيد عالي الكيلاني
الوصي عبد الإله مع الملك فيصل الثاني أمام البرلمان.
الفريق نوري السعيد.
تشكلت قوى المعارضة ضد حكومة نوري السعيد من ضباط الجيش العراقي بزعامة الفريق حسين فوزي رئيس الأركان العامة والذي تؤيده كتلة المربع الذهبي، وهم مجموعة من الضباط يتزعمهم أربعة عقداء وهم ما يسمون بالعقداء الأربعة بزعامة صلاح الدين الصباغ وكل من فهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود سلمان ويونس السبعاوي.
تعاظمت الصيحات المعارضة لنوري السعيد جراء سياساته وازداد عدد معارضوه في الحكومة والبرلمان وفي الأحزاب المعارضة وحتى الموالية وازداد سخط الشارع عليه الناقم على الإنجليز. ومن أهم لأسباب التي أججت الرأي العام في تلك الفترة هي:
1.كانت الاجواء السائدة في العراق تميل للاستقرار وبناء لحمة المجتمع والنهوض بالبلد نحو العمران، بعد انتهاء الانتداب ومنح عصبة الأمم العراق الاستقلال عام 1932.
2.أثرت تداعيات انقلاب بكر صدقي على الرأي العام، الذي أيده الملك غازي الأول من طرف خفي والذي حدث جراء الاحتقان السياسي الذي تسببت به سياسة حكمت سليمان التعسفية ضد القبائل والشخصيات والأحزاب الوطنية، وما تلا ذلك من أحداث كاغتيال جعفر العسكري وزير الدفاع ورئيس الوزراء الأسبق، تلك الشخصية السياسية المعروفة والمحسوبة على تكتل نوري السعيد، كون الأخير صهره. ثم فشل الانقلاب واغتيال بكر صدقي في الموصل وهو في طريقه مسافرا إلى تركيا.
3.تفاعل الشارع السياسي مع الملك غازي والمجموعات المدنية والعسكرية الملتفة حوله من أحزاب وضباط وشخصيات وطنية من أمثال رشيد عالي الكيلاني باشا وصلاح الدين الصباغ، جراء تطلعاتها الوطنية والقومية وسياسته في اعمار العراق وبناءه وتعميق استقلاله بالابتعاد عن المعاهدات التي رأى فيها تكبيل العراق بعجلة المصالح البريطانية. منها اتخاذه لبعض الاجراءات الهامة كالتجنيد الإلزامي ودعم الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني والهجرات اليهودية إلى فلسطين ودعم استكمال تحرير سوريا ولبنان من الاحتلال الفرنسي، العمل على إخراج الحامية البريطانية من الكويت والدعوة إلى وحدتها مع العراق، وأيضا ميله إلى ألمانيا في مستهل الحرب العالمية الثانية ووقوفه علنا ضد بريطانيا ودول الحلفاء عام 1939 وهو تاريخ وفاته الغامض والذي راى فيه الشعب اغتيال مدبر تسبب في هياج متعاظم ضد بريطانيا في العراق.
4.محاولات بريطانيا الهيمنة على العراق وسياسته من خلال عقد المعاهدات كمعاهدة سنة 1930م، والعمل على استغلال نفط العراق بأبخس الأثمان. كذلك من خلال الإبقاء على قطعات كبيرة من الجيش البريطاني في قواعد العراق كالحبانية في الفلوجة، والشعيبة في البصرة.
5.اغتيال وزير المالية رستم حيدر في يناير / كانون الثاني عام 1940 وهو من حلفاء نوري السعيد على يد موظف ولأسباب قبلية، استثمرها نوري السعيد للإيقاع بخصومه من خلال اتخاذه لاجراءات قاسية ضدهم.
بدأ التوتر يشوب طرفي المعادلة السياسية، المعارضون والموالون أو التيار الوطني التحرري الذي يتزعمه رشيد عالي الكيلاني باشا ضد التيار الليبرالي الذي يتزعمه نوري السعيد. وفي المقابل حاول معارضو نوري السعيد حشد قادة الجيش والرأي العام ضده بغية اقصائه عن الحكم من جراء سياساته الموالية لبريطانيا والتعسفية بحقهم.
تطورت الأحداث بشكل مضطرد ينبيء بحدوث شرخ كبير في الجيش والبرلمان والاحزاب السياسية، مما انعكس على الشارع الناقم أساسا على الحكومة الموالية لبريطانيا. وأخذ التصدع يتوسع ليشمل مجموعة السبعة من كبار القادة العسكريين المشاركين في الحكم لاسيما رئيس الاركان العامة للقوات المسلحة الفريق حسين فوزي، وكذلك مجموعة المربع الذهبي، مما أدى إلى نذر ازمة ثقة وزارية ترتب عليها ازمة دستورية سميت بأزمة فبراير / شباط 1940.
وعند تفاقم الأزمة الدستورية، لم يكن أمام الحكومة سوى إقالة رئيس الوزراء نوري السعيد المسبب الأول بخلق الأزمة وتفاقمها. إلا أنه حشد مؤيديه مدنيين وعسكريين وبالاتفاق سراً مع حليفه الوصي الأمير عبد الإله الهاشمي، في محاولة لاظهار نفسه على أنه قائد جماهيري يتمتع بتأييد شعبي، حيث طالب مؤيدوه ضرورة إعادة الوصي الأمير عبد الإله لتكليفه بتشكيل الوزارة الجديدة. تزايدت نقمة الشارع وامتعاض التيارات المناوئة لنوري السعيد من أحزاب وقادة عسكريين من الذين يتمتعون بتاييد جماهيري حاشد، وأدى ذلك بالوصي إلى التردد بتكليف نور السعيد بتشكيل الحكومة الجديدة تحسبا لما قد يجر عليه من ازدياد النقمة التي قد تتحول إلى انتفاضة أو انقلاب.
فسر أنصار نوري السعيد التأخر بتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة بشكل خاطئ، أدت إلى حالة من الاحتقان التي أسهمت في رفع درجة الغليان، الأمر الذي أدى إلى تسارع الأمور بما لا تحمد عقباه، حيث حشد مناصرو نوري باشا قواتهم العسكرية في معسكر الرشيد في الرصافة، عاقدين العزم على احتلال العاصمة بغداد والسيطرة عليها وفرض سياسة الأمر الواقع، في المعسكر المقابل، أصدر رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الفريق حسين فوزي أوامره بوضع قواته في معسكر الوشاش في الكرخ في أهبة الاستعداد حفاظا على أمن العاصمة، وبدا المشهد مهيئاً للانفجار والمواجهة العسكرية، بين الاطراف المتصارعة.
حزم الوصي أمره بعد أن درس أين يكمن توازن القوى، فالقوى الوطنية والتحررية المناوئة لنوري السعيد تملك التاييد الجماهيري الساحق بالمقابل القوى الليبرالية بزعامة نوري السعيد تملك الدعم البريطاني الذي لامناص منه حسب رأي الأمير عبد الإله. بناء على ذلك قرر الوقوف إلى جانب نوري السعيد المتحالف اصلا معه، وتكليفه بتشكيل الوزارة حيث شكل نوري الوزارة الجديدة وانتقم من خصومه بإقالة رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة، الفريق حسين فوزي والقادة العسكريين المناصرين له.
أدت تلك الإجراءات إلى تفاقم نقمة الجماهير والتيارات الوطنية والقومية والتحررية التواقة للخروج من ربقة الهيمنة البريطانية التي أخذت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلد منها تعيين الموظفين وهيمنة المستشارين على الوزارات والهيمنة الاقتصادية على السوق والعملة والنفط علاوة على السياسة العامة الداخلية والخارجية. وأضحى الوضع قابل للانفجار في أي لحظة، مما أدى إلى عزل الحكومة والتشكيك بوطنيتها.
حاول الوصي اتباع سياسة ترقيعية، فبدلا عن أرضاء الجماهير الغاضبة، عمد إلى اجتماع ضم كبار السياسيين في مارس / آذار من عام 1940 الهدف منه تحجيم دور الجيش في القضايا السياسية والوطنية، وإصدار القرارات التي تحرم تلك الانشطة وجعله جيشا مهنيا فحسب. وكان المقصود بذلك مجموعة السبعة ومجموعة المربع الذهبي.
ولم يتمكن الوصي من اتخاذ اجراءات حاسمة للحد من نشاطات الجيش العراقي السياسية والوطنية بسبب تعاظم سيطرة الضباط الكبار في العملية السياسية والحكم. علاوة على نقمة الشارع وانهيار سمعة الوصي ونوري السعيد والحكومة. الأمر الذي أدى إلى ممارسة القوى الوطنية من سياسيين وعسكريين ضغوطات كبيرة على الحكومة والوصي مما أدى به إلى محاولة إرضائهم بإقالة وزارة نوري السعيد الضعيفة والمعزولة والتي تفتتت بسبب تقديم استقالات الشخوص البارزين فيها.
في نهاية المطاف بدأ الوصي بالتفكير لإرضاء الجماهير الغاضبة والقوى الوطنية من أحزاب وكتل سياسية وعسكرية، بالبحث عن شخص ترضى به كل الاطرف فتوجه إلى رئيس الديوان الملكي حيث حاول اقناع رشيد عالي الكيلاني باشا بتكليفه بتشكيل الوزارة حيث يتميز الكيلاني بقبوله من جميع الاطراف كونه من الشخصيات البارزة في المجتمع والمعروف بمهابته وسمعة الجيدة وسياسته المتوازنة علاوة على ثقافته الواسعة وهدوئه وحنكته السياسية. كان الكيلاني يلقى تأييدا شعبيا كاسحا على خلاف نوري السعيد، ومرد ذلك كون الكيلاني ينتمي لنفس المدرسة الوطنية للملك غازي فقد ارتبط بالملك بعلاقات خاصة وعامة أثرت كثيرا على مواقفهما معا كما سبق وأن عملا سويةً في أكثر من مناسبة، فكان الكيلاني رئيسا لديوان غازي وكاتم أسراره، وعند مصرع الملك في ظروف غامضة دارت الشكوك والوساوس حول مقتله التي كان الشارع والساسة يعتقدون بأن وراءه السفارة البريطانية والوصي ونوري السعيد بسبب مواقفه ضد بريطانيا من جهة، وبسبب تناقض حيثيات حادث مصرعه من جهة أخرى، وكان لمصرع الملك الأثر الكبير على سياسة الكيلاني ومواقفه التي أراد منها التعبير عن وفائه وإخلاصه للملك من خلال التشبث بسياسته وافكاره.
قام رشيد عالي باشا باتخاذ إجراءات مهمة لاحتواء الوضع وامتصاص النقمة والاحتقان السياسي، منها تشكيل ما سمي بالائتلاف الوطني الذي ضم كل من نوري السعيد باشا بمنصب وزير الخارجية، وعدد من كبار الزعامات السياسية والعسكرية من كلا التيارين المتصارعين، ومنها أيضا عدم تنفيذ كل إجراءات الحرب التي أصدرها نوري السعيد، بل اكتفي بتطبيق ما ورد من بنود في معاهدة سنة 1930 لعدم فسح المجال للظهور أمام بريطانيا بمظهر الناكل لتنفيذ المعاهدة.
كانت ذريعة بريطانيا بإنزال قواتها في العراق هو مرورها عبر الأراضي العراقية إلى فلسطين للاشتراك في المعارك الدائرة في أوروبا، واستنادا لبنود المعاهدة العراقية -البريطانية لسنة 1930 كان لزاما على بريطانيا تقديم طلب موافقة من قبل ملكها إلى ملك العراق لإنزال القوات البريطانية إلى الأراضي العراقية، ولما كان الوصي عبد الإله قد فر إلى الأردن فلم يكن أمام السفير البريطاني إلا التعامل مع الشريف شرف ورشيد عالي الكيلاني نفسه. وافق رشيد عالي على نزول الفوج الأول من القطع الحربية، وكان عبارة عن اللواء العشرين البريطاني مع كتيبة مدفعية ميدان وسرب من طائرات الفلانشيا وبعض أفواج المشاة المتجحفلة معها بشرط خروج تلك القوات إلى خارج العراق ليتم استقدام قوات جديدة والا اعتبر إنزال يقع تحت بند الأعمال العدائية الحربية. حيث ادرك رشيد عالي باشا بأن البريطانيين لم يكن لهم ما يكفي من القوة المسلحة ليقاتلوا في العراق وكان عليه أولا إخراج القطع الداخلة قبل السماح بدخول قوات أخرى لضمان عدم شنها عدوان على البلد.
وبعد عملية إنزال القطع والتي تمركزت في قاعدة الشعيبة في البصرة حيث طلب السفير إدخال لواء آخر، وهنا اعترضت الحكومة، وطلبت تنفيذ بنود المعاهدة بدقة والقاضية بإخراج القطع القديمة قبل المجيئ بقطع جديدة، ولكن فوجئت الحكومة بوصول اللواء الآخر إلى البصرة من الهند يوم 28 أبريل/ نيسان من عام 1941.
كانت خطة الجيش العراقي تتلخص بالعمل باتجاهين الأول صد أي هجوم بريطاني قد تقوم به القطعات البريطانية من قاعدة الشعيبة في البصرة من قبل الفرقة الثالثة ضمن قاطع عمليات الجنوب مع القطعات الساندة المتجحفلة معها وبإسناد جوي من قاعدة الرشيد الجوية في بغداد ومطار الكوت القريب نسبيا وهذا الهجوم إن حدث فخطورته أقل بسبب طول الطريق من البصرة إلى بغداد، المار عبر عدد من المعوقات كالأنهار الأهوار والعشائر التي تسبب للجيش البريطاني الكثير من المشاكل وهو في طريقه إلى بغداد، علاوة على خطورة انكشافه في هذه الأرض المنبسطة والطويلة مما يعرضه إلى القصف المدفعي والجوي إضافة إلى إمكانية قطع خطوط إمداداته.
فاستبعدت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية أن تتبدا بريطانيا بالهجوم من الشعيبة، وتوجه التفكير إلى القاعدة الأخرى التي تسيطر عليها بريطانيا وهي الأكثر خطورة وإستراتيجية لقربها من بغداد ووقوعها على خطوط المواصلات مع فلسطين والأردن الذين كانا تحت الانتداب البريطاني. وهذا هو الاتجاه الثاني للخطة حيث تركز الاهتمام على صد أي إنزال أو هجوم ينطلق من قاعدة الحبانية المجاورة والقريبة من الفلوجة والواقعة غرب بغداد بحوالي 90 كيلومتر باتجاه الحدود الأردنية. حيت يمكن للقوات البريطانية الانطلاق لمهاجمة المدينة بعد تجميع قواتها المحمولة جوا والآتية من الهند في الحبانية، أو إرسال قوات برية من فلسطين والأردن وتجميعها في قاعدة الحبانية، حيث كان في كل من فلسطين والأردن قطع عسكرية كثيرة ومجهزة، كما كانت بريطانيا تمهد لتنصيب الأمير عبد الله بن الحسين الهاشمي ملكا على عرش الأردن بناء على رغبة الأردنيين، والأخير شقيق الأمير زيد والد الوصي عبد الإله من الأسرة الهاشمية، وكان يتعاطف معه ونوري السعيد اللاجئين إليه والطامحين لإسناده لإعادتهم للسلطة المفقودة بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني باشا.
وصف ساحة العمليات
يمكن وصف ساحة المعركة التي وقعت في الحبانية بأنها عبارة عن أرض متموجة تتخللها أراضي منبسطة صحراوية، وفيها حقول ومزارع وبساتين كثيفة، تكثر باتجاه خط نهر الفرات الذي يقطعها من الشمال الغربي والذي تتفرع منه قناة إلى الجنوب منه، سميت بناظم سن الذبان، وتقع القاعدة الجوية البريطانية بين نهر الفرات وقناة سن الذبان، وعند أقصى جنوب القناة توجد ربوة مرتفعة تقع بقربها قرية صغيرة. تُشرف هذه الربوة على القاعدة الجوية لذلك أولتها القوات العراقية والبريطانية أهمية سوقية في المعركة. وإلى الجنوب من القناة يقع الشارع الرئيسي الذي يصل بغداد بالحدود الأردنية مارا بالفلوجة الواقعة قبل الحبانية، والذي يبعد حوالي 90 كيلومتر باتجاه بغداد. ويقع جنوب الشارع هضبة مرتفعة واسعة على شكل منحنى تشرف على نهر الفرات شمالا وعلى بحيرة الحبانية الواقعة إلى الجنوب منه والتي تشكل أهمية سوقية في المعركة. أما ربوة سن الذبان فانها تمنح القطع العسكرية التي تحتلها، قوة السيطرة والتحكم بالقاعدة وذلك لإمكانية قصفها بسهولة، كما أنها تعد خطوطا دفاعية للقوات المهاجمة للقاعدة يمكن الاحتماء بها من أي تعرض بريطاني فيما إذا هاجمتها القطعات البريطانية القادمة من القاعدة. إلا أنها في الوقت نفسه لا تُشكل أهمية للقوات البريطانية فيما إذا أرادت الاستيلاء عليهما للهجوم على القوات العراقية ذلك لأنها لا توفر أي إطلالة مناسبة على الفلوجة حيث تتواجد القطع الرئيسية العراقية، ولكنها استنادا للمصطلحات العسكرية تعتبر بمثابة “موطئ قدم” يمكن مشاغلة القطعات العراقية منها قبل تجميع القوات وإعادة تنظيمها تمهيدا لشن هجوم شامل مدبر.
تحركت القوات العراقية في اليوم التالي الموافق 29 أبريل/ نيسان من معسكر الرشيد في بغداد إلى الحبانية لتقوم بمحاصرة القوات البريطانية التي كانت ستأتي إليها جوا. واحتلت القوات العراقية منطقة الهضبة المشرفة على الحبانية وبهذا كانت قد طوقت القاعدة التي تحدها الهضبة بشكل قوس من الجنوب والغرب ونهر الفرات من الشمال والشرق، وكانت القوات العراقية تتألف من لواء مشاة ولواء مدفعية وكتيبة دروع، أما القوة البريطانية فكانت تتالف من لواء مشاة آلي محمول جوا مع كتيبة مدفعية وكتيبتي دروع، وكان واضحا تفوق القوة العراقية المجهزة باحدث أنواع المدفعية وسائر الأسلحة.
بدأت القوات البريطانية تحرشاتها تحت ذريعة إجراء تدريبات روتينة على الطيران من القاعدة، فأمر قائد القوات العراقية الميداني متجاهلا المعاهدة العراقية – البريطانية بالتوقف عن إجراء التدريب، وقام الطيران البريطاني بدلا عن ذلك باستفزاز القوات العراقية، كما أبلغ قائد القوات البريطانية السلطات العراقية بأن محاصرة قاعدة الحبانية من على الهضبة يعتبر إعلان الحرب فاعلمته السلطات العراقية بانها تقوم بمناورات في تلك المنطقة، فطلب القائد البريطاني القيام بالمناورات في مكان آخر، فرفضت السلطات العراقية الطلب بالمقابل. وعند الساعات الأولى لصباح يوم 2 مايس / أيار من عام 1941 أقلعت طائرات التدريب البريطانية الصغيرة وهي تحمل بعض القنابل، وفي الساعة الخامسة والدقيقة الخمسين من ذلك الصباح أسقطت أول قنبلة فوق الهضبة وفي ظرف دقائق ردت القوات العراقية على مصادر النيران وبشكل مكثف آثار رعب القوات البريطانية المحاصرة.
أدركت القوات البريطانية أن سقوط القاعدة بيد القوات العراقية أصبح مسألة وقت. كما أن تدمير برج خزان الماء الوحيد المخصص للشرب سيؤدي حتماً إلى استسلام القاعدة، وقد أعدت القوات العراقية العدة لشن هجوم شامل تسهم فيه كل الألوية المجهزة بالمدفعية والدبابات وبمساندة الطائرات العراقية. وكان مخططا الزحف لاكتساح الأبنية والمعسكر مما كان سيؤدي إلى الاستسلام الفوري للقوات البريطانية.
وفي هذه اللحظة وصلت الإمدادات للقاعدة بطائرات من القوات البريطانية في الأردن، وشرع الطيارون البريطانيون بمهاجمة القواعد الجوية العراقية التي كانت تقلع منها الطائرات العراقية المهاجمة، كما هاجمت مرابض كتائب الدفاع الجوي العراقية وكتائب المدفعية الثقيلة الأخرى المحاصرة للقاعدة.
وبعد يومين من الاشتباكات العنيفة تلقت القطع العراقية أوامر بإعادة تنظيم أنفسها والتجمع مع ألوية أخرى في خطة شاملة أعدتها القيادة العامة للقوات المسلحة للدفاع عن بغداد، بعد تواتر الأنباء عن قرب وصول تعزيزات بريطانية كبيرة إضافية قادمة من فلسطين والأردن لمهاجمة بغداد. وعند الساعات الأولى لليوم الثالث من المعارك أصبحت أرض الهضبة خالية إلا من حامية صغيرة مدعومة باسناد من القطع العراقية، التي اتخذت لها مواقعا في المعسكر القريب بين الفلوجة وخان ضاري، وأصبح في وسعها التصدي لأي تقدم قد تشنه القوات البريطانية نحو بغداد.
صدرت الأوامر بإعلان بريطانيا حربها الشاملة على العراق التي اعتبرتها متممة للعمليات العسكرية للحرب العالمية الثانية وبعد حشد القطع الكبيرة الآتية من الهند وفلسطين والأردن، في قواعدها الجوية التي كانت تشغلها استنادا لمعاهدة سنة 1930 فوضعت خطة للهجوم على بغداد. لم يكن أمام القوات البريطانية إلا استخدام خطة أخرى بديلة وهي تقليد ما قامت به القوات الألمانية بهجومها على هولندا وبلجيكا من خلال الالتفاف حول خط ماجينو من جهة فرنسا من الجنوب، وهذا ما قرره الجنرالات الإنجليز بسلوك الطريق الصحراوي شمال الحبانية والفلوجة والتوجه جنوب الثرثار ثم شمال بغداد، تلافيا للاصطدام بالقطع العراقية في الفلوجة وخان ضاري للتوجه إلى طريق الموصل – بغداد من جهة نهر الفرات قرب الفلوجة للهجوم على بغداد. وكان فوج المشاة البريطاني قد قويت عزيمته بعد أن زادت معداته بالنظر للإمدادات الكبيرة التي دخلت العراق من الهند والأردن كما وكان الطيران البريطاني يعرقل وصول إمدادات القطع العراقية إلى الفلوجة.
وقد برزت هنا مشكلة أخرى أمام القوات البريطانية في حال بدء الهجوم على بغداد، هي وجود المئات من البريطانيين محاصرين في السفارة البريطانية والمفوضية الأمريكية عدا بعض منهم من الذين تمكنوا من الفرار واللجوء إلى قاعدة الحبانية قبل احتدام المعارك، وهم أيضا كانو محاصرين أثناء معارك الحبانية. وكان من الصعب حتى على القوات البريطانية في الحبانية ان تتمكن من الزحف إلى بغداد لإنقاذهم، غير ان القوات البريطانية كانت تواجه صعوبات تسير بها من سيء إلى أسوأ، حيث بدأ هبوب عاصفة رملية عاتية متجهة من الصحراء الأردنية باتجاه الحبانية وبغداد، ومما زاد من تفاقم الوضع سوءا على البريطانيين هو الغبار الكثيف المنبعث من سير العجلات العسكرية البريطانية في الصحراء والتي كانت تتحرك متجهة نحو الحدود العراقية عبر البادية من فلسطين والأردن. وما ان وصلت هذه المعلومات إلى قيادة أركان القطع العراقية حتى شرعت باستثمار ذلك بشن هجوم مباغت على الدبابات البريطانية المنهكة من الطريق الطويل الذي سبب لها المتاعب والأعطال. وكان الرتل المتقدم بقيادة أمر اللواء البريطاني كينغستون من اللواء الرابع الآلي مع سريتين من سرايا الفوج الأول وكتيبة الدروع للعقيد أيكس بالإضافة إلى ثلاث سرايا تعود إلى قوة الحدود البريطانية في الأردن وثماني عجلات مدرعة كانت قد أرسلت على عجل بعد سحبها من معركة العلمين في مصر ضد ألمانيا وكان مع هذه القوة بعض المراتب والضباط من الجيش الذي يقودهم كلوب باشا في الأردن.
وحالما حل الظلام حتى ابتدأت عملية نقل الأرتال الذاهبة إلى طريق الموصل تؤازرها مفارز الهندسة الخاصة بوضع الجسور العائمة. علمت القوات العراقية بالتحرك شمالا مع عدد كبير من القطعات لصد التحرك البريطاني باتجاه العاصمة وما كان على القوات البريطانية في هذه الحالة إلا الالتحام مع القوات العراقية المتقدمة شمالا والتقدم على طريق الفلوجة من جهة أخرى، وقام الطيران البريطاني بإسقاط مناشير على الفلوجة تطالب أهاليها بالاستسلام ثم قصفت البلدة قصفا شديدا راح ضحيته عدد كبير من المدنيين وفي منتصف النهار أصدر أمر للواء غراهام بالتقدم ودخول الفلوجة عنوة، وبعد أن تقدم المشاة في طريقهم إلى الجسور واجهوا مقاومة عنيفة من القطع العراقية والمتطوعين، غير أن هجوما مقابلا قامت به القوات العراقية في الساعة الثانية من صباح يوم 31 استغلت اخلاله عددا من المميزات الكثيرة التي ساعدهم على النجاح، فقد كانوا يعرفون المدينة معرفة جيدة وكان يعمل معهم متطوعون مختبؤن من الأهالي فكانت تدمر أي دبابة تغامر بالدخول إلى الفلوجة بواسطة بنادق بويس. وبعد أن وصل اللواء كينغستون تولى قيادة الهجوم وتجميع باقي القطعات لاحتلال الفلوجة وصار من الممكن أن يبدأ الزحف نحو بغداد، فقُسمت القوة إلى رتلين بعد أن اشتبكت مع القطع العراقية بالقرب من التاجي، ووصلت إلى موقع في شمال الكاظمية، وعندها تم تبادل نيران المدافع بين الطرفين في ضواحي بغداد.
أدى الهجوم الشامل للقوات البريطانية على البصرة وبغداد، إلى انسحاب الحكومة والمربع الذهبي من العاصمة لقيادة العمليات للقطع المدافعة من خارج بغداد والتي انضمت إليها فرق المجاهدين من المتطوعين وأفراد العشائر. وتدريجيا مع سيطرة القوات البريطانية وإمدادها باعداد كبيرة من القطع من الهند والأردن، ضعفت مقاومة الحكومة وبدأت تنسحب شيئا فشيئا من مواقعها القتالية أمام تقدم القوات البريطانية. وفي بداية يونيه / حزيران من سنة 1941، طلبت القوات البريطانية الهدنة فاختير محافظ بغداد أرشد العمري لمفاوضتها ولجأ رشيد عالي الكيلاني إلى إيطاليا ومنها إلى ألمانيا مع حليفه مفتي القدس أمين الحسيني، ليبتدئا صفحة جديدة من كفاحهم ضد الاحتلال، متخذا بعدا عربيا وقوميا ودوليا حيث خصص هتلر للكيلاني محطة إذاعة عربية من برلين سُميت “حيوا العرب من برلين” بإدارة الإعلامي العراقي المعروف يونس بحري.
العمليات الحربية من وجهة النظر البريطانية
تشير وثائق السفارة البريطانية في بغداد في تقريرها المرفوع إلى ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في حينه ما مفاده:
«وُضعت الخطط لاحتلال بغداد ولكن وجود القطع العراقية بهذه الكثافة والتجهيز والمعنويات أصبح الزحف إلى العاصمة من الغرب أمرا مستحيلا من وجهة نظر العمليات الحربية، فأصبحت الفلوجة الهدف الثاني من العملية وتُعد هذه المهمة شاقة حتى بالنسبة لقوة عسكرية لا تقيدها مشاكل قوة الرجال والمعدات لأن الفلوجة تسيطر على الجسر المؤدي للضفة الأخرى المتصلة ببغداد، وما لم يؤمن الاستيلاء على الجسر يُعد الهجوم على الفلوجة شيئا مستحيلا، يُضاف إلى ذلك أن طائرات “المسر شميت” الألمانية المقاتلة والقاصفة كانت قد ظهرت في الجو آنذاك مما زاد من تعقيد العمليات الحربية.»
بعد أن احتل الإنجليز الفلوجة عاد الوصي الأمير عبد الإله بن علي الهاشمي إلى قاعدة الحبانية من الأردن يوم 30 مايس/ أيار من عام 1941 ومعه نوري السعيد، بعد سيطرة القوات البريطانية على مقاليد الأمور، مع أتباعهما من السياسيين وظهروا أمام المجتمع بمظهر المنتصر حيث اتخذوا سلسة اجراءات الهدف منها تقويض المد الوطني والقومي في البرلمان والأحزاب السياسية وفي الحكومة والجيش الذي شهد حملة شعواء لتطهيره واجتثاث العناصر المناوئة لبريطانيا منه. فتم تقويض الجيش ومحاكمة مجموعة المربع الذهبي وإعدامهم شنقا، حيث أعدم كامل شبيب ويونس السبعاوي أحد الضباط المتحالفين مع المربع الذهبي، ثم تم إعدام زعيم القادة العسكريين وقائد مجموعة المربع الذهبي العقيد صلاح الدين الصباغ الذي واجه المشنقة ببسالة حيث أهان الوصي قبل إعدامه متهماً إياه بالعمالة قائلاً:
«أهلا بالمشنقة أرجوحة الأبطال.. لا تأسفنَّ على غدر الزمان فكم رقصت على جثث الأسود كلاب.. يبقى الأسود أسود والكلاب كلاب.»
شن الوصي حملة لتقويض الجيش العراقي فتم حل الكثير من الوحدات وألغيت الكثير من عقود التسليح، وتم تسريح العديد من الضباط ذوي الرتب الكبيرة أو سجنهم، بحسب إسهامهم في الثورة، كما تم نقل الضباط الصغار الرتب من المشاركين في الحركة إلى المحافظات البعيدة مثل الملازم أول عبد السلام عارف الذي شارك في الثورة ونُقل إلى البصرة. وأثرت تلك الاجراءات لاحقاً على نتائج الحرب مع إسرائيل عام 1948م..
منذ الوقت الذي نزلت فيه أول طلائع القوات البريطانية في البصرة بدأت سلسلة من الأحداث العدائية لهذه القطع، فقد رمى الناس المتواجدون في شوارع البصرة القطع البريطانية بالحجارة كما استهدف المواطنون شاحنات تقل الجنود من هنود “الكوركا” ثم حطمت الشاحنات، كما هوجمت السيارات الخصوصية للجالية والسفارة البريطانية وبصق العراقيون على جنود مشاة البحرية البريطانية. وكانت روح الانتقام قد ارتفعت لأعلى مستوياتها فكانت واضحة لدى أفراد العشائر، حيث حوصر القنصل البريطاني في إحدى المصانع في محاولة للاعتداء عليه بعد أن أوسع شتما وإهانة.
أما على الصعيد الشعبي، فقد ازداد سخط العامة من تداعيات التدخل البريطاني لإسقاط حكومة رشيد عالي باشا حيث اعتقد الرأي العام بان وراء احتلال العراق وإسقاط الحكومة من قبل الإنجليز كتلة الوصي ونوري السعيد باشا من جهة والحركة الصهيونية من جهة ثانية، الأمر الذي جعل الدهماء يهاجمون المصالح البريطانية واليهودية في العراق حيث كانت الجالية اليهودية تمثل شريحة كبيرة في العراق، تتحكم بالتجارة الصناعة، فهاجم العوام من العمال البسطاء والفلاحين الساكنين في البيوت العشوائية في منطقة ما عرف بوراء السدة، المصانع والشركات اليهودية ثم توسع الغوغاء ليشمل جميع البيوت اليهودية حيث تم حرق وسرقة العديد منها وتجلى ذلك بعد سقوط الحكومة وانفلات الأمن، وهذه الأحداث يعرفها البغداديون بما سمي بمصطلح “فرهود اليهود” ذلك المصطلح الذي ترجم حرفيا “Farhud” في كتابات المؤرخين الإنجليز لتلك الحقبة.!!