(التسامح) ..
د.علي أحمد جديد
التسامح ، قيمة أخلاقية نقيضة للتعصب وللعنصرية ، وعرفته البشرية قيمة دينية لدى كل الديانات السماوية المنزلة برسالاتها الخالدة ، ولدى الديانات الإنسانية الموضوعة في مفاهيمها للدعوة إلى الإخاء والمحبة . والأهم أن التسامح بات قيمة سياسية تَقبَلُ الاختلاف في الرأي والتوجّه ، وتنويرية ترفض الظلمة والتقوقع ، كما أنه قيمة حقوقية عالمية تدعو لعدم التمييز في تحديد الحقوق والواجبات تحت سقف الانتماء الإنساني الصادق و المواطنة .
والتسامح هو جوهر التعايش مع الآخرين بسلام وتَقَبُّل أفكارهم وآرائهم وعقائدهم وممارساتهم حتى لو كانت عكس ما نؤمن به . وفي ذلك يتضح أنَّ التسامح فضيلةٌ تعني الانفتاح على الآخر دون قيود اللون أو الديانة أو الجنس ، واحترام الاختلاف بالتَركيِّز على القواسم المشتركة ، والإيجابية في المجتمعات من خلال نبذ العنف والسعي إلى تحقيق السلام والحفاظ على حقوق الإنسان ، لأنه مِن حقِّ أيّ جماعة أن تمارس ثقافتها بِحرّيَة ، وذلك ما يعني أن الحرية الثقافية في جوهرها تستند إلى مبدأ التسامح . وفي هذا الإطار يرى الفيلسوف البريطاني (برنارد ويليامز) أنَّ التسامح هو “الفضيلة الصعبة” . أي أنَّ التسامح بقدر ماهو ضروري فإنه صعب في نفس الوقت خاصة لدى الجماعات التي تختلف أو تتناقض مع بعضها البعض في المُعتقدات الأخلاقية أوالسياسية أوالدينية أوفي الانتماءات الإثنية تحت مظلة مجتمع واحد ، إلا أنّه في النهاية لا بديل عن التسامح لأنسنة هذا الاختلاف كي لا يتحوّل إلى خلاف يؤدي إلى إحباط وصراعات عدوانية وتعصُّب ، فتكون نتيجته على أرض الواقع معاناة وعنفاً وحروباً لاتنتهي .
وبمناسبة العيد الخمسين لمنظمة اليونسكو في 16 أكتوبر من العام 1995، أعلنت الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة مجموعة من “مبادئ التسامح” لإنقاذ الأجيال المستقبلية من ويلات الحروب ، إيماناً “بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره للعيش في سلام وحسن جوار” . وقد أكَّدت هذه المبادىء على “ضرورة التضامن الفكري والمعنوي بين البشر” ، والحق لكل شخص في ممارسة حرية التفكير ، والضمير ، والدين ، والتعبير عن الرأي ، وأنَّ التربية وحدها هي الكفيلة في تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين الشعوب والجماعات العرقية (الإثنية) والدينية .
والتسامح ، وفق هذه النظرة الأممية ، لا يعني التنازل عن الهوية الوطنية أو العقائدية أو التساهل في الانتماء ، بل هو موقف إيجابي يعترف بحقوق الإنسان العالمية وبالحريات الأساسية للآخرين . وبما أنَّ البشر متنوعون بطبيعتهم في (المظهر ، اللغة ، السلوك ، العِرق ، القِيَم ، والمعتقد ..) فإن لهم الحق أيضاً للعيش بسلام ، ووحده التسامح قادر على ضمان بقاء المجتمعات المختلطة إثنياً في كل منطقة من هذا العالم .
وقد ركَّز الإعلان الأممي عن التسامح على عدد من المفاهيم التي تتقاطع مع مفهوم “التسامح” كالحقوق والحريات ، وذلك من زاوية التنوع الثقافي والعيش المشترك وضرورة التواصل مع الآخر ، أي الانفتاح على التنوع ، كما أنَّه أعطى للسلطة الشرعية (الدولة الوطنية) تكليفاً في”ضمان العدل وعدم التحيُّز في التشريعات ، وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية والمُسارَعة في المُصادَقة على الاتفاقيات الدولية القائمة بشأن حقوق الإنسان وصياغة تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة وفي تكافؤ الفرص . وفي ذلك يتم الربط بين مفهومي التسامح والتنوع الثقافي كاستجابة لمتطلبات العولمة التي حوَّلت العالم إلى قرية صغيرة بفعل ثورة الإتصال والتكنولوجيا والتطورات المُصاحبة لها (إنترنت ، سرعة التنقل والاتصال ، الهجرة ..) والتي أدت بدورها إلى زيادة التفاعل والتواصل الشفاف والمستنير بين البشر . ولذلك أصبح “التسامح أمراً جوهرياً في العالم الحديث” بسبب التغييرات الجذرية التي طرأت على الأنماط الاجتماعية وعلى أسلوب حياتنا كبشر . لذلك يكون الحوار (المشروط بوجود الآخر) هدفاً لتحقيق التسامح ، وهذا ما عبَّر عنه (كلود ليفي شتراوس) ، حينما اعتبر :
“أنهَّ لا حوار بدون اختلاف ، ولا اختلاف بدون هُويَّة ، ولا هُويَّة إلا بالوعي بين الأنا وبين الآخر” .
كذلك فإنَّ الطبيعة البشرية تُحتِّم وجود الاختلاف دائماً لكونه من مقتضيات العقل ومن ضرورات الاجتماع ، والتنوع الثقافي هو المرآة الحقيقية للتسامح في أي مجتمع إذا ما أُحسِنَت إدارته . وهناك حاجة ماسة لفن إدارة الاختلاف والحؤول دون تحوّله إلى خلاف ونزاع أو زرعٍ الأحقاد . وذلك بغرض تعميم المفهوم الإنساني الأعلى الذي هو “التسامح” .
وللتنوع” دلالات تشير إلى التكامل والتفاعل والغنى المُخَصِّب للهُويَّة الوطنية والعقائدية (الدينية) ، وذلك بعكس مصطلح “التعدد” الذي يتم تسويقه حالياً كمصطلح مرادف للتنوع ، بحيث تتمحور دلالاته المخفية حول سلبيةٍ تُشير إلى النقض ، والهدم ، ورفض الآخر ، والانقسام إلى ولاءات عديدة ضيقة (عصبيات “قَبَلِيَّة” و”دينية أ ومذهبية”) على حساب الولاء الأكبر المشترك الذي هو “الوطن” الذي ننتمي إليه جميعاً بالمواطنة . وهنا تساؤلات تطرح نفسها بمشروعية كاملة :
* لماذا يتحوّل “التنوع” الذي كانت تعيشه مجتمعاتنا إلى “تعدد أحادي مغلق”؟!..
* ولماذا تمترست الهويات الأحادية المغلقة خلف متاريس العنف والتعصب؟!.. وبالتالي إلى إرهاب محلي ودولي !!..
* وهل نحن ضحية مؤامرات خارجية أم صراعات داخلية؟!..
* وهل الأمّية والفقر والتبعية والتهميش سبباً أم هي نتيجة للأزمات التي بات يعيشها الفرد العربي في كل أقطار وأقاليم الوطن الكبير ؟!..
لقد تعددت النظريات والتحليلات لهذه القضايا التي وُضِعت منذ زمن قيد البحث من قبل المفكرين والباحثين العرب تحديداً ، فاعتبرها بعضهم بأنَّها أزمة داخلية مرتبطة بـ”أزمة العقل العربي” ، وآخرون اعتبروا بأنَّها امتداد لأزمات تعود لفترات تاريخية ماضية مُستَندين إلى “نظرية المؤامرة” التي صاغها “الآخر من الخارج عن طريق تزكية نيران الفتن العرقية والمذهبية والطائفية ، وتركيزه على مفاهيم “الأغلبية والأكثرية” و”التعددية الثقافية” و”حقوق الأقليات” سواء الإثنيات العرقية أوالدينية ، وتهيئة الأرض لتَدخُّله في شؤون الدول بذرائع متعددة أولها مكافحة الإرهاب . ولكن بعيداً عن مدى صوابية كلا التحليلين فإنَّه لا يمكننا إنكار تَغَوُّل ثقافة الفكر التطَرُّفي “التكفيري” البعيد عن ثقافة التسامح الذي هو جوهر كل الديانات ، والفكر الملازم لمقولات التفوق العرقي والتميُّز الحضاري التي روَّج لها مفكرون غربيون أمثال (هنتنغتون) في كتابه “صراع الحضارات” .
وعند التعبير عن التسامح يمكن وصفه بأنه من أسمى القيم وأهمها ، لأنه أسلوب حياة إذا اتصفت به المجتمعات الإنسانية فيمكنها تحقيق السلام الداخلي ، الذي يجعلها تترفع عن الصفات السيئة ، وتستطيع تجاوز الخلافات والمشاكل ، لأن العفو عند المقدرة ، وعدم رد الإساءة بمثلها . والتحكم في الغضب هو أفضل السبل للتسامح وللتعايش السلمي .
كما أن للتسامح آثاره الإيجابية الكثيرة على الفرد و على المجتمعات ، وفيه يقوى المجتمع وتختفي معظم المشكلات . ولذلك يجب غرس قيمة التسامح بين الأفراد في المجتمعات بدءاً من البيت لأن الفرد هو اللبنة الأولى لأي مجتمع .
كما تتعدد صور التسامح ، فهناك التسامح الديني ، وهو احترام الديانات الأخرى المختلفة والقضاء على التطرف ، وحرية ممارسة الشعائر الدينية دون تَعدٍّ من الآخرين . وهناك التسامح العرقي الذي لا يسمح بوجود العنصرية (الإثنية)العرقية ، وهناك أيضاً التسامح السياسي ، الذي يتجلى بممارسة الديمقراطية الحقيقية وسيادتها ، وهناك التسامح الثقافي الذي يجعلنا نتقبل ثقافات الآخرين الذين يقاسموننا العيش والمصير .
لقد أصبحنا اليوم بحاجة كبيرة إلى التسامح في حياتنا وفي ممارساتنا ، وبات الحل الوحيد للتخلص من المشكلات و الصراعات . لأن تاريخنا يزخر بشخصيات متعددة دعت إلى نشر التسامح وجعلته رمزَ قوةٍ وعنصراً أساسياً لبناء المجتمعات . ويشير التاريخ أيضاً إلى مجتمعات كثيرة تقدمت بسبب انتشار التسامح ، ومجتمعات أخرى تأخرت بسبب توارث الحقد والانتقام والكراهية .
ولأن التسامح منبع قوة لأي مجتمع فإنه يدعم الوحدة بين أفراد المجتمع الواحد ، ويعزِّز علاقة التناغم بين تطور وتقدم المجتمعات وبين التسامح ، فمتى وُجِد التسامح وُجِد التقدم والتطور ، لأنهما وجهان لعملة واحدة . وبناء أي دولة يتطلب من شعبها تقديم التضحيات والتنازلات . والعفو الذي هو الصفة المقدسة التي تبعث الاطمئنان والسكينة في النفس وبين الأفراد ، وتنشئ مجتمعاً موحداً ، وهي الدليل على التحضر ، والمحبة بين أفراد المجتمع الواحد .
ويحظى التسامح بجانب كبير في بناء المجتمعات الإنسانية ، وفي القضاء على الكراهية والحقد بين الناس ، ويعزّز السلام بينهم ، ويساهم في بناء المجتمعات المتحضرة بشكل كبير ويجعلها متينة وقوية وخالية من الصراعات والفتن ، كما يجعل الفرد يسمو فوق مصلحته الشخصية ليفكر في جميع من حوله .
وأيضاً يُمكّن التسامح من تربية جيل قادر على العفو والتعايش ، ويمنح العيش بسلام داخلي في المجتمع ، ويقوي الروابط الانسانية والعلاقات الاجتماعية بين افراد المجتمع ويضفي أثره النفسي على الفرد ، حيث أن الكراهية والحقد تؤثران على صحة الإنسان وتجلبان العديد من الأمراض النفسية والعصبية ، أما التسامح فإنه يمنح الأمان والاستقرار والمصالحة مع النفس ، وهو مايساعد على تقوية الجهاز المناعي ، وبذلك يقلل من خطر التعرض لتلف خلايا الدماغ العصبية .
“عاشِرْ بإنصافٍ و سامِحْ من اعتدى ولا تُلْقِ إلا بالتي هي أحسن” .
وقال الشاعر (مانع سعيد العتيبة) عن التسامح في قصيدته :
لأن التسامحَ نقطةُ ضعفي
فما زلتَ تحظى بودّي ولطفي
وما زلتَ تطعنُني كل يوم
فلا يتصدّى لطعنِك سيفي
أداوي جراحي بصبري الجميل
فلا القلبُ يسلو ولا الصبرُ يشفي .