قراءة نقدية مزدوجة :”القصيدة بين الحضور والغياب للحبيبة”
فقرة جمع بصيغة المفرد:(مبدع/مشاكس/ناقدة)
– قصيدة المبدع حمد حاجي:”لا زلت عنكبوت قلبي”(تونس)
– قصيدة المشاكس عمر دغرير:”تأخرت عن نبع حنانك ايها الولد الاصيل”(تونس)
– الناقدة :جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية المزدوجة: “القصيدة بين الحضور والغياب للحبيبة”
المقدمة:
يعود بنا الشاعر المبدع حمد حاجي الى الماضي والزمن الجميل مع الحبيبة وقد هزّه الشوق والحنين اليها فجاد وأغدق بمعاني الحب .
ترى بما أباح لنا المبدع عن هذه الجنة المفقودة؟
وفي هذا الاطار هل ان الشاعر المشاكس عمر دغرير سيتناغم معه ام سيفنّد
مزاعمه؟
القراءة النقدية :القصيدة بين الحضور والغياب للحبيبة”
1- المبدع حمد حاجي:حرارة الشوق الى الجنة المفقودة”
اختار الشاعر حمد حاجي عنوانا لقصيدته”لا زلت عنكبوت قلبي”
ولا زال هي في محل ومعنى “مازال التي تعبّر عن الاستمرار.
وقد استخدم تشبيها بليغا بان شبّه الحبيبة بعنكبوت قلبه والعنكبوت موسومة بالنسيج الدائم والجميل والعنكبوت يبني الشبكة بهدف اصطياد فريسته فهل قلب الحبيب لا يزال فريسة شبكة الحبيبة والتي نسجت حبّها له؟
لقد رسم الشاعر في قصيدته خمسة مشاهد من الزمن الجميل وهو يتذكّرها وتجسّدُ أدوات النسيج (يركبن منسجها/شاح فوق الحجارة صوف/تبرم مغزلها / تحيك نمائم برنسها/صليل الخلالة منها يطول/ أرتمي عند منسجها ).
ان الشاعر استخدم معجمية من التراث الواقعي للمرأة الريفية العاملة بساعدها هذا العمل القائم على النسيج ليدعم حبّه العنكبوتي الجميل والمستمرّ استمرار نسيج العنكبوت.
ان الشاعريعرض علينا هذه المشاهد التي تثيره وتجعله يتذكر حبه القديم الجميل ويتوق لو يعود الزمان الجميل ليبوح للحبيبة بحبه لها.
فاستخدم اللازمة التي يرددها في كل مقطع وكأنه سيثير الحبيبة ليبوح لها بحبّه (أقول: احبك جدا…)
هذه اللازمة او الترديدة أضفت على القصيدة مسحة من الرومنسية
انها رومنسية تذكره بالحبيبة .
وهنا يمكن للمتلقي ان يتساءل عن تمسك الحبيب بهذه الترديدة(أقول:أحبك جدا…)والشاعر قد أولى للمتلقي أهمية بترك فجوات او فراغات نصية للتأويل بعد كل ترديدة فيمكن ان يخامر المتلقي تساؤلا:
– هل يعيد تلك الترديدة في كل مقطع ليستمتع بذكراه مع الحبيبة؟
– هل يعيدها لانه يستمتع بسماعها وهو يفتقدها ويهتزّ شوقا اليها؟
– هل يعيدها مُتوهّما ان الزمن الجميل المفقود قد يعود ؟
وأكثر من ذلك فقد أضفى على حبه سمة الاستمرارية وحتى الخلود باستخدام لازمة موازية لللازمة الأولى بل أقوى منها استمرارية في الحب اللامتناهي واللامحدود وقد استعمل فيها كل حواسه التي تثير متعته في حبّها :
أتوق أقول :أحبك جدا..
أحبك ما مرّ يوم وذكرى…فماذا أنصّ وماذا أقول؟
…أحبك ما دار بين الكواكب نجم وما سار حينا دليل
أحبك اذا رنّ خلخالها
اوتحيك نمائم برنسها وصليل الخلالة منها يطول
أحب أقول:أحبك جدا..
…أحبك ما رنّ عود وما بالكمنجة غنّى خليل
…أحبك ما فاح علك الصنوبر…او عندل العندليب الأصيل.
…فحبك منه الجبال الرواسي تزول …ووحده حبك ليس يزول
لقد استعمل الشاعرمعجمية دالة على الحب سواء الفعل( أحبّك) او المصدر(حبك) اثنيْ عشرة مرة واستعمل مرادفات لمعنى الحب(أهوى/أعشق/أودّ..)
ان هذه المعجمية الغارقة في معاني الحب لها دلالتها النفسية على الحبيب الذي بات يحنّ الى ذاك الزمن الجميل ويتوق الى حب لا زال عنكبوت قلبه.
ان الحبيب هنا يتناص مع الشابي وهو يتذكر العهود الجميلة التي قضاها مع الحبيبة حين يقول:
كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير
قضّيتها ومعي الحبيبة لا رقيب ولا نظير
ان شوق الحبيب وحنينه الى الزمن الجميل زمن حبه للحبيبة جعله يعمد الى ترك فراغات نصية(عشرة فراغات نصية) ليتنفّس من خلالها وقد جفّ ريقه وهو يعيد كلمة أحبّك /حبّك التي غطت كامل القصيدة بما في صوت الحاء من ازدواج لمعنى المتعة ومعنى الألم فهو من ناحية يستمتع بحرارة الشوق لحبه الجميل
ومن ناحية أخرى يتألّم من برودة اليأس والحنين لماض لن يعود.
لذلك أراد ان يورّط القارئ معه ويقحمه في التأويل حتى يستعيد أنفاسه.
ان الشاعر قد عاقر هذه المشاهد الجميلة التي جمعته بالحبيبة في الزمن الجميل وعانقه الشوق والحنين فما كان منه الا ان يزاوج بين الشعري والتشكيلي ليستعيد كل تلك المشاهد القديمة والتي تمثل له الجنة المفقودة.
ويختم الشاعربمفارقة جميلة لتثلج وتشرح قلب الحبيب فيقول:
فحبّك منه الجبال الرواسي تزول…ووحده حبّك ليس يزول.
وهنا يفارق الشاعر بين الحب والحبيب فقد يزول الحبيب ويبقى الحب
ومن ذلك مثلا قيس بن الملوح قد مات لكن حبّه العذري لليْلى ما زال خالداحتى ان حبهما اصبح مضرب الامثال حين نردّد قولنا في الذاكرة الشعبية : “لكل عاشق ليْلاه”.
ان الشاعر جعل الحبيب يضفي على حبّه سمة الخلود حتى يخفّف عنه شدّة الشوق وعبء الحنين.
===يتبع ===
=== يتبع ===
2- المشاكس:عمر دغرير:برودة الحنين الى ماض لن يعود:
منذ العنوان الذي وضعه المشاكس لمشاكسته”تأخرت عن نبع حنانك أيها الولد الاصيل” نلاحظ أنه غير مقتنع بكل تلك الترديدات المشحونة بمعاني الحب واعتبر ان بوْح المبدع بحبه للحبيبة قد جاء متأخرا.
وفي نبرة المشاكس شيء من التهكّم حين وصفه بالولد الاصيل لان الاصيل لايمكن ان يفرّط في الزمن الجميل.
كما دعم العنوان بجملة الاستهلال”تاخرت جدا”ليجعل المبدع يُسرّ الحسرة والندامة على ما كان بين يديه وضيّعه.
وكأني بالمشاكس هنا يلمّح الى طبيعة في الرجل انه لا يعترف بقيمة الحبيبة الابعد ان يجرّب غيرها ليميّز بين الجوهر والمظهرويقف على قيمة معدن المرأة التي كانت في متناوله لكنه يتطلع لغيرها.
ولدعم تأخّره أيضا بالغ المشاكس في تحديد الزمن لغياب المبدع عنها وقدّره بقرن فيقول:
“وقد مرّ قرن ولم تتذكر”بانها غابت وبغيابهاغاب الزمن الجميل.
هذا الزمن الذي قضته الحبيبة كادحة من وراء منسجها مشغولة أناء الليل واطراف النهار فيقول: وكانت مع النسوة خلف منسجها
تقضي النهاروبعضا من الليل
تعدّ أغطية
حسبما تقتضيه الفصول
واثناء كدحها لا يعيرها المبدع قيمة بل هو في غياب ومشغول عنها بمصالحه
وهي محرومة حتى من حقها الشرعي في المبيت معها وفي انتظارها له وهي خلف منسجها فيقول :
أتذكر آخر مرّة
كانت ترجّتك ان تبيت ليلتك عندها
ولكنك اعتذرت
وقلت لها كثيرة أشغالك
وغيابك عنها قد لا يطول…
وتنطلي عليها حيلته حيث تبقى تعُد الساعات منتظرة قدومه ولكنه لم يأت.
لعل القارئ يتدخل من خلال تلك الفجوات النصية ليمارس حقه في التاويل:
– قد يعتبر القارئ ان المشاكس استخدم أسلوب المقابلة المعنوية بين الماضي والحاضر:
بين حضور الحبيبة وغياب الحبيب في الماضي.
بين حضور الحبيب وغياب الحبيبة في الحاضر.
– هل هذه العلاقة بينهما في الحضور والغياب تعكس علاقة المرأة العربية وخاصة الريفية “بسي السيد” الذي يحضر ويغيب متى يحلو له.
– قد يعتبر القارئ ان المراة الريفية شريكة للرجل في غيابه عنها باعتبارها مشغولة عنه بشغلها الذي لا يحسن تقديره.
ان المشاكس يثيرقضية العقلية عند المراة والرجل:
*انها عقلية المرأة الريفية الساذجة المنتظرة لرحمة الرجل الى حدّ اليوم وهو في ذلك يتناص مع المصلح المصري قاسم أمين في كتابه”تحرير المرأة”
ان المرأة الريفية فاعلة في دورها الاقتصادي لكن هي مفعول بها في وضعيتها الاجتماعية وهي مازالت ترزح تحت نير غطرسة الرجل وسلطته اللامحدودة.
* انها عقلية الرجل المؤمن بالمجتمع الذكوري الذي بيده الأمر والنهي.
وهل أكثر من ان المبدع قد جعل المرأة الريفية الكادحة تخضع لاوامره ونواهيه حتى في الحب فهو يغيب عنها متى شاء وقد يحضر متى يشاء وهي المنتظرة له
والمستسلمة والراضية بقدرها معه.
لعل المشاكس هنا يَحْلم” بالمراة الريفية الجديدة” تماما كالمصلح قاسم أمين.
يعود المشاكس ليختم مشاكسته مؤكدا على تأخرالمبدع في العودة الى نبع حنانه هذه الحبيبة الغائبة حاضرا وقد تلاعب بحضورها ماضيا وهو بذلك يفنّد زعم المبدع القائل بعنوان قصيدته ” لا زلت عنكبوت قلبي” ولعل القارئ يتعاطف مع المشاكس ويدعم رأيه باستحضار الآية الكريمة (14) من سورة العنكبوت:
“وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت..”
الخاتمة:
لئن كان ابداع حمد حاجي مؤجّجًا بحرارة الرجاء و الشوق الى استعادة الجنة الضائعة والفردوس المفقود.
فان مشاكسة عمر دغرير مطبوعة ببرودة اليأس والحنين الى ماض سعيد لن يعود ليجعل المبدع يُسرّ الحسرة والندامة على تفريط ما كان بين يديه.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة.
بتاريخ:11/06/2024
=== يتبع ===