مختارات ..
=-=-=-=-=-=
( أبو فراس الحمداني )
فارس السيف والقلم
د.علي أحمد جديد
هو (الحارث بن سعيد بن حمدان بن حمدون بن الحارث الحمداني) ، وهو معروف باسم (أبي فراس الحمداني) .
هو أمير ينتمي إلى “بني حمدان” المؤسِّسة للإمارة الحمدانية وعاصمتها (حلب) ، وقد أتبع مكانته السياسية بالفروسية المجيدة ، وتوَّجها بالشعر ، فقد كان شاعراً عباسياً فصيحاً ذا أبيات مترفة العذوبة والسلاسة والجزالة .. والرزانة ، وقال (صاحب بن عباد) عنه :
“بَدأَ الشعر بملك ، وخُتم بملك” .
يقصد هنا أن الشعر العربي بدأ من (امرئ القيس) الذي كان ملك قومه ، وأُختُتِمَ عند (أبي فراس الحمداني) .
وإلى جانب حسن أدبه ولسانه ، كان فيه الفارس المقدام والمغوار ، ويمتلك فكر القيادة الحربية ، حيث شارك في الكثير من المعارك التي كانت ضد الروم مع ابن عمه الأمير (سيف الدولة الحمداني) ، ووقع بالأسر في إحدى هذه المعارك . وفي تجربة الأسر صاغ مجموعة قصائده الشهيرة المعروفة لدى مؤرخي الشعر العربي باسم “الروميات” .
ولد (أبو فراس الحمداني) في مدينة الموصل في العراق سنة 320 أو عام 321 هجرية ، ويعود نسبه من ناحية الأب إلى قبيلة (بني تغلب) المعروفة ، ومن ناحية الأم إلى قبيلة (بني تميم) إلا أنّ بعض المؤرخين يشككون في نسبه من ناحية والدته ، ويقولون أنها رومية الأصل ، ولكن للشاعر عروبة راسخة وظاهرة في شعره وفي مواقفه .
نشأ أبو فراس الحمداني يتيمَ الأب إذ قتل والده على يد ابن أخيه (ناصر الدولة) إثر خلاف وقع بينهما على إمارة الموصل ، وكان (أبو فراس) آنذاك لم يتجاوز بعد الثالثة من عمره . وتعهدت والدته رعايته وتربيته على أكمل وجه ، وانتقل (أبو فراس) فيما بعد مع والدته إلى مدينة (منبج) بالقرب من حلب ، وهناك كفله ابن عمه أمير حلب (سيف الدولة الحمداني) الذي أولاه كل الاهتمام والعناية الشديدين ، وكان بمثابة الوالد له .
نشأ (أبو فراس) في كنف (سيف الدولة) على الشعر والفروسية والشجاعة .
وكان لسيف الدولة مجلس يجمع فيه الكثير الشعراء والأدباء والعلماء ، وذلك ماأتاح لأبي فراس أن يلتقي بأئمة الفروسية و الفنون ، وكان لهذا الأمر أثره الكبير في تكوين شخصية (أبي فراس) الأدبية . ودرس اللغة على يد أشهر الأئمة ، ليتميز بفصاحته وبلاغته ، وقد شهد له بذلك شعراء عصره ، وعَهِدَ (سيف الدولة) إلى (ابن خالويه) مهمة الإشراف على تعليم (أبي فراس) ، حتى أصبحت العلاقة التي جمعت (أبا فراس) ومعلمه وثيقة وقوية ، فكان (ابن خالويه) الراوي الوحيد لشعر (أبي فراس) ، وجامع ديوانه وشارحه .
ولم يكتفِ (سيف الدولة) بتعليم (أبي فراس) الشعر والأدب واللغة ، بل اهتم أيضًا بتدريبه على الفروسية وعلى أساليب القتال ، فعيّن له أمهر القادة والفرسان لتحقيق ذلك ، كما اصطحبه معه في العديد من غزواته منذ صباه وذلك ما أكسبه المهارات العملية التي أجادها تماما .
شارك (أبو فراس) مع سيف الدولة في معظم معاركه ضد الروم ، وضد القبائل العربية المتمردة إذْ يقول (أبو فراس) :
“غزونا معه وفتحنا حصن العيون في سنة 339 هـ-950م، وسنّي إذ ذاك تسعة عشر عاماً ”
وقد أبلى بلاءً حسناً وأظهر من الشجاعة والإخلاص مع الثبات والولاء ما دفع بسيف الدولة أن يقوم بتوليته إمارة (منبج) تقديراً وإكراماً له ، فاضطلع (أبو فراس) بواجبات الإمارة وأدّاها على أكمل وجه .
ويذكر بعض المؤرخين أنّ (أبا فراس الحمداني) قد وقع في الأسر من قبل الروم مرتين . كانت المرة الأولى في عام 347 هجرياً ، ووقتها اقتاده الروم إلى منطقة تسمى “خرشنة” والتي تقع على ضفاف نهر الفرات ، وكان لهم هناك حصنٌ منيع ، إلا أنه لم يمكث فترة طويلة في الأسر ، لأن (سيف الدولة) افتداه وحرّره ، كما قال بعض المؤرخين الآخرين أنه استطاع الهرب من سجنه .
أما المرة الثانية ، فكانت يوم سقوط (منبج) بأيدي الروم وذلك في عام 350 هجرياً وفي هذه المرة اقتاده الروم إلى القسطنطينية و مكث فيها طوال مدة أسره والتي بلغت أربع سنوات ، إذ استطاع (سيف الدولة) إعادة ترتيب وتجهيز جيوشه ، وهاجم الروم ، وانتصر عليهم ، وأسر البعض منهم ، ومن ثم قام بافتداء (أبي فراس) ومَن معه من الأسرى المسلمين .
وقد قضى أبو فراس فترة سجنه في نظم أجمل وأبلغ قصائده الشعرية ، والتي كانت مليئة بمشاعر الحزن ، والألم ، والحنين للوطن ولوالدته ، إضافة إلى الرسائل التي كان يرسلها إلى ابن عمه (سيف الدولة) يشكو فيها من الأسر ، ويلومه على تأخره في افتدائه ، ومن تلك القصائد :
أراكَ عصيَّ الدمع شيمتُك الصبرُ
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟
بلى أنا مشتاق وعندي لوعةٌ
ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرُّ
وفي قصيدة أخرى يقول :
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ
أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى! ما ذُقتِ طارِقةَ النوى
ولا خطرت منكِ الهموم ببالِ
وقد تميّز شعر (أبي فراس الحمداني) بسهولة الألفاظ ، وبوضوح المعاني مما جعله يتفوق ويتميز على الكثير من الشعراء الذين عاصروه .
وعلى الرغم من موهبته الشعرية الكبيرة إلا أنه لم يكن يتخذ من الشعر صناعة ، أو وسيلة للتكسب كغيره من الشعراء ، ويغلب على أشعاره طابع الأنفة والكبرياء ، وتخلو من أغراض المديح التكسبي ، والهجاء المأجور ، أواللعب كغيره من الشعراء المعاصرين له . إلا أنه قام بنظم بعض القصائد في مديح أقاربه افتخاراً بهم وليس كنوعٍ من أنواع التكسب .
وقد اقتصرت أغراض شعره على الموضوعات التي تناسب شخصيته وإبائه ، ومكانته وعزة نفسه ، وكانت تتفق مع مفهومه لوظيفة الشعر في الفخر ، والحماسة ، والغزل ، والوصف ، والحكمة ، والرثاء .
لم يُوَلِّ (أبو فراس) أهمية لشعره ، كما لم يكن يهتم بجمعه أو تنقيحه و كان يكتفي بإلقائه أمام أستاذه (ابن خالويه) ويطلب منه عدم نشره بين الناس . إلا أن أستاذه قام بتدوين جميع أشعاره وقصائده في ديوان خاص ، وتُعَدُّ رواية (ابن خالويه) هي الرواية الوحيدة لشعر (أبي فراس الحمداني) ، والتي نقل عنها الكثيرون من المؤرخين .
علم (سيف الدولة) أن ابن عمه وفارس دولته (أبا فراس) فارس طموح ، فصار يتوجس خيفة على ملكه منه ، فتعمّد أن يحطّ من قدره وان يكسر شوكته ويخذله ، وأن يذلّه بإبقائه أطول فترة ممكنة في الأسر . ولهذا قام بمساواته مع باقي الأسرى ، رغم انه ابن عمه ، وله صولات وجولات في الكرم والدفاع عن حدود الدولة وخدمة (سيف الدولة الحمداني) .
بعد سنة من افتداء الشاعر ، توفي سيف الدولة (967) م وخلفه ابنه (أبو المعالي سعد الدولة) ، وهو ابن أخت الشاعر . وكان (أبو المعالي) صغير السن فجعل غلامه التركي (فرعويه) وصياً عليه . وعندها عزم (أبو فراس الحمداني) على الاستيلاء على حمص ، فوجّه إليه (أبو المعالي) مولاه التركي (فرعويه) ، فسقط الشاعر في أوّل اشتباك في الرابع من نيسان/ابريل سنة 968م وهو في السادسة والثلاثين من عمره .
وكان رأي (سيف الدولة الحمداني) فيه كان صادقاً وفي محله . فقد كان (أبو فراس الحمداني) طامحاً للمُلك وهو الأمر الذي جرَّ عليه الويلات .
قال ابن خلكان :
“وهذا يدل على أنه لم يقتل أو يكون قد جرح وتأخر موته ثم مات من الجراحة” .
قيل إن الذي قتله هو (قرغويه) التركي غلام سيف الدولة بأمر من (أبي المعالي بن سيف الدولة) ، وكان مقيماً في حمص . وجرت المعركة قرب قرية صدد ، فقُتِلَ وأُخِذَتْ رأسُه ، وبقيت جثته مطروحةً في البرية ، إلى أن جاءه بعض الأعراب فكفَّنوه ودفنوه .
قال الثعالبي :
“شعره مشهور سائر بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة” .
في شعره غزل رقيق عذب ، يجمع في غزله بين أخلاق الأمراء الفرسان وبين العاشقين ، وهذه الخصائص تظهر في غزلياته واضحة، من ذلك قصيدة “أراك عصي الدمع” التي اشتهر بها .
Discussion about this post