ومسرعَةٌ لم تَرُدَّ صَبَاحي… وفَاتَت بطرفِ الرّصيف لتوقِفَ تاكسي..
أغارُ عليها.. تظلُّ تُخَامِرُني بالصّبابةِ أسئلةٌ كبقايا حُبابٍ بقِيعَةِ كأسِ
وغابت بعمق الزّحام.. وكنت نسيتُ أقول أحبك جدا وما كنت ناسي
أُوَسوِسُ… زَعْمَةَ تحكي لسائقها عن ذبول غراسي! وزَعمَةَ ترفَعُ رأسي..!
……..
شذرة تحكي قصة رائعة في مشهد مختصر جدا زمانه الصباح و مكانه رصيف و تاكسي .
كان لها ان تأخذ الحافلة ، و لكن كانت مسرعة حتى انها لم ترد التحية .
القصة كلها في هذه التاكسي التي أخذت الحبيبة و التي لم ترد السلام … لو تأخرت قليلا قليلا ، او تعطلت في ” الأمبوتياج ” …
في زمن أصبح بعيدا نوعا ما عن الجيل الحالي ، كانت هناك تاكسي تسمى تاكسي ال ” بي بي ” و كانت تُطلق عليها دعابة في ذلك الوقت على سبيل المزح ” تاكسي بي ، بي ، وصلني لمون شيري في المونبري “.
يعز على الكاتب ان الحبيبة لم ترد تحية الصباح ، و في داخله أمنية لو ردت التحية لكان صباحه بها أجمل .
كانت على عجالة من أمرها و خاب ظن الحبيب ، فهاجت غيرته ،
يقول يزيد بن معاوية
أصابَكَ عشقٌ أم رُميتَ بأسهمِ
فما هذهِ إلا سـجيّـةُ مُغـــرَمِ
أصابك سهـم أم رُميتَ بنـظـرةٍ
فمـا هـذه إلا خطيئةُ مـن رُمـي
ألا فاسقِني كاسـاتِ راحٍ وغنِّ لـي
بذِكـرِ سُــليـمــةَ والكمانِ ونغِّـني
و يقول الحاجي :
أغارُ عليها.. تظلُّ تُخَامِرُني بالصّبابةِ أسئلةٌ كبقايا حُبابٍ بقِيعَةِ كأسِ
و يجيبه بن معاوية :
أغارُ عليها من أبيـها وأمِـهـا
إذا حدّثاها في الكلامِ المُغَمغَمِ
أغارُ عليهـا مـن أخيها وأختِـهـا
ومن خُطوةِ المسواك إن دار في الفم
أغار علـى أعطافهـا مـن ثيابهـا
إذا ألبستهـا فـوق جسـم منْـعـم
فالغيرة هي بهارات الحب ، و من يغار على حبيبته فهو يحبها حد الجنون ، و الحالة التي بقي فيها الحبيب حين أخذت التاكسي من جانب الرصيف ، حالة ممزوجة بالحيرة و الحب و التمني و الغيرة .
تخامره بالصبابة أسئلة و اولها لماذا لم ترد على التحية و آخرها لماذا هي على عجالة من أمرها ؟
كبقايا حباب بقيعة كأس ، رائع جدا التشبيه ، هل كان الشاعر على الرصيف يترشف قهوته ، هل كان يتحدث مع كأسه ، فرأى بقايا ” البن في قاعه ” راكدا ، كجلسته و التفكير فيها متقوقعا لعدم ردها التحية ، ربما !!!؟
حتى
غابت بعمق الزّحام.. وكنت نسيتُ أقول أحبك جدا وما كنت ناسي
بقي يلاحق طيفها و تملأه الأسئلة كما ذكرت أعلاه ” لماذا لم ترد التحية ”
ماذا لو ردت التحية !؟
لقال لها أحبكِ جداً و أكثر ، و دونك الحياة استحالة
ماذا لو تريثت لسمعت من الشعر أجمله و من النثر أروعه
ماذا لو لم تأت التاكسي و لم تأخذها وسط الزحام ، لكان اللقاء و الصباح أكثر اشراقا
ماذا لو …
في وحدته يوسوس ، حالة قريبة من الهلوسة .
أُوَسوِسُ… زَعْمَةَ تحكي لسائقها عن ذبول غراسي! وزَعمَةَ ترفَعُ رأسي..!
الوسوسة من الشيطان ، و هذا الشيطان الذي تملك الشاعر ، شيطان الحب و الغيرة ، ” زعمة تحكي لسائقها ” سائق التاكسي طبعا ، و قد أصبحت هذه التاكسي تاكسي ” مون شيري في الزمن الجميل “.
و من المألوف ان سائق التاكسي كالحلاق بالضبط ، يمر على مسمعه آلاف الحكايات المتنوعة ، فهو خزينة خرافات ، و من أراد ان يترك حكايته فليقصها لحلاق أو سائق تاكسي .
لكن شاعرنا انتظر الكثير ، و الحبيبة لم ترعه اهتمام ، و المدة طالت ” ذبل غرسه ”
و لم يبق له إلا التمني ، لو …
تحكي حكايته و عشقه لها لسائق التاكسي ، حتى تنعش غرسه فيرفع رأسه و تعود إليه الحياة . و يأخذ ذات التاكسي يوما لعله يجد خبرا منه انها قالت كنت أحبه .
…………….
كعادته الدكتور حمد يجمعنا على مشهد من صميم الواقع ، صورة رائعة من محب احرقته نار الشوق ” الصبابة ” و اعياه انتظار استجابة محبوبته للنداء ، شكل من أشكال الحب النقي الصافي ، اين كانت الإبتسامة رسالة ، و التحية كتابا ، و اللقاء مجلدا …
يقول المتنبي :
و ما صبابة مشتاق على امل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل
والهجر أقتل لي مما أُراقبه
أنا الغريق فما خوفي من البلل
دمت شاعرنا بهذا الإبداع ، عتيق معتق بالجمال و الروعة ، دام مداد حرفك
بقلمي سعيدة بركاتي ✍️