الأخذ من كل شيء بطرف
بقلم :ماهر اللطيف
كل العملات النقدية المتداولة في البورصة تشهد صعودا ونزولا في القيمة والتداول في كل آن ومكان، واستقرارا آنيا كذلك لبعض الوقت، تماما مثل البشر، فهناك من يولد في كل لحظة ومكان ومن يتوفى ومن يستقر لبعض الوقت إلى حين موعد فنائه.
بيد أن هذه العملات وضعية من صنع البشر وهي جامدة وجدت لتسهل على خلق الله التواصل والاستمرار وتحقيق التوازن على جميع الأصعدة وتوفير حاجياتهم وغيرها، عكس البشر الذين أوجدهم الله من العدم وعمر بهم الأرض لفترة معينة ليقوموا بمهمة محددة تكون لهم يوم القيامة المحدد الرئيسي في ولوج الجنان أو النار وفق ما قدموه من قول وفعل وعمل في هذا الإطار.
وهذا ما يجعلنا نتساءل في هذا المقال المقتضب أسئلة تبدو لنا أساسية وجوهرية لفهم المسألة ومحاولة فك طلاسمها وشفراتها على غرار: لماذا خلقنا الله؟ وما المطلوب منا، ولماذا؟ وهل نحن أهل لهذه المهمة؟ فكيف تعاملنا معها؟ وأخيرا ما هي الخلاصة والعبرة من هذا الخلق وتعاملنا مع الخالق؟
لكن، وما دمنا في طرح الاشكاليات تمهيدا للغوض في أعماقها وتفكيكها قبل إعادة تركيبها لنقترب أكثر ما يمكن من فهم الموضوع ومحاولة استيعابه استيعابا أكثر موضوعية ومشروعية – وفق الإمكان بمشيئة الله تعالى وبركاته -، علينا تعريف الكلمات المفاتيح – حسبنا – لغة واصطلاحا، فما الله، فالبشر، ثم الوجود؟
ف”الله” لغة هو اسم علم يدل على الذات العلية الواجبة الوجود، الجامعة لصفات الألوهية (معجم المعاني الجامع). أما اصطلاحا فيشار لله بلفظ “الجلالة”، وهو اسم علم مفرد لا جمع له في اللغة العربية يدل على “المعبود” “الخالق ” في الديانات التوحيدية الربوبية (والنظم العقائدية الأخرى)، يوصف الله على أنه الخالق الكلي والقادر والمتحكم والمشرف على الكون، وهو ذو غيب منيع لا يدرك (معجم المعاني الجامع) .
اما البشر لغة فيقصد به الإنسان (الواحد والجمع والمذكر والمؤنث فيه سواء)، وقد يثني ويجمع على أبشار ومن معانيه التبشير والحسن والجمال وغيرها(معجم المعاني الجامع). اما اصطلاحا فالبشر يعني إلارتقاء بعقول الناس ومعاملتهم كبشر لهم عقول تميزهم عن غيرهم من المخلوقات (معجم المعاني الجامع).
أما فيما يخص مصطلح الوجود لغة، فهو مصدر فعل وجد يجد ويعني اقتضاء الذات وتحقيقها في الخارج، خلاف العدم (المعجم الرائد)، ووجد مطلوبه والشيء يجده وجودا ويجده أيضا بالضم (لسان العرب و المعجم القاموس المحيط ). أما اصطلاحا فيعني كل ما هو موجود أو يمكن أن يوجد، كون الشيء واقعا وهو نوعان ذهني وخارجي، عكسه العدم (معجم اللغة العربية المعاصرة).
ومنها، يحق لنا الآن البحث في إشكالية “لماذا خلقنا الله”، وهي اشكالية محورية لفهم بقية أطوار ومسار المقال، لذلك سنحاول التركيز قدر الإمكان عند هذه النقطة المفصلية. فلماذا خلقنا الله؟
فقد قال الأكاديمي السعودي تركي الحمد ” وفق رأى بعض المتكلمين والفلاسفة وأهل التصوف، خلق الله الوجود ليرى ذاته فيه. فالملك مثلا ليس ملكا دون رعية، وكذلك الموجودات إنما وجدت لتعكس ألوهية الإله”.
أما نايف الفقير (أكاديمي) فقال “أعتقد أن الله أعطى للإنسان نفحة ألوهية من روحه ليكون صاحب قرار، فيأتي أو يذهب بإرادته”
وقال آخر” أشهر الإجابات على لماذا خلقنا الله، هي إظهار عظمته وقدرته للخلق… الابتلاء والاختبار وإقامة الحجة.. فالاجابتان تعودان لإقرار الحاجة،والثانية تعيدنا إلى سؤال :إذا كان قد علم بعلمه المطلق قدر الخلق في الحياة وحتى البعث، فما الغاية من إقامة الحجة على المسيرين جبرا للإيمان أو الكفر؟”.
و أردف آخر” خلقنا الله لينفع بعضنا بعضا، فعبادة الله هي نفع الناس من غير منّ ولا أذى، وبالتالي معنى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، أي وما خلقت الجن والإنس إلا لينفع بعضهم بعضا. أما الله تعالى فهو الغني “ما أريد منهم من رزق”… ”
ويالتالي،يتضح لنا أن الله خلقنا لنعبده عبادة خالصة من خلال نفع بعضنا لبعض ومحاولة الإبتعاد عن الشرور والسيئات من جهة، وليرى ذاته وكماله وعزته وجلاله فينا من جهة ثانية، ولنكون عباده ونأتمر بأوامره دون قيد أو شرط إن أردنا السلامة من جهة ثالثة. فهل نحن أهل لهذه العبادة؟
فلننطلق هنا من قوله تعالى ” إنا عرضنا الأمانة على السماوات َالأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا” (72 الأحزاب). فحسب تفسير الطبري فقد اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية فقال بعضهم ” إن الله عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت، وان ضيعت عوقبت، فأبت حملها شفقا منها أن لا تقوم بالواجب عليها وحملها آدم (انه كان ظلوما) لنفسه (جهولا) بالذي فيه الحظ له.
وقال آخرون” بل عنى بالأمانة في هذا الموضع أمانات الناس.” وقال غيرهم “بل ذلك إنما عنى به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وخيانة قابيل أباه في قتل أخيه”.
وأولى الصواب ما قاله الذين قالوا ” إنه عني بالأمانة هنا هي جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخصص بقوله “عرضنا الأمانة” بعض معاني الأمانات لما وصفنا”.
ومن هنا، يتبن لنا أننا أمام مهمة شاقة وصعبة (لمن يريد أن يراها كذلك) ويسيرة وممكنة التحقيق وبلوغ الاهداف المنشودة (للمؤمنين و المتوكلين على الله والمتحدين لكل المصاعب والعراقيل) في آن واحد، بما أن الكمال لله وحده لاشريك له من ناحية، وأننا ناس بُنينا على السهو والنسيان من ناحية ثانية، وكل شيء نسبي متاح للنجاح والفشل من ناحية ثالثة.
لذلك،فإننا (البشر) نجد أنفسنا “تلاميذا في مدرسة الحياة” ندرس ونتعلم (من خلال التجارب والمعاناة اليومية)، نتعامل مع الدروس وفق ما استخلصناه من عبر وقواعد، نطبق ما تعلمناه على أرض الواقع (كامتحان وضعي متواصل) ونحاول تطوير وتحسين ذواتنا وتصرفاتنا قولا وفعلا في كل مكان ووقت مع كل من يعترضنا ويتعامل معنا، وبالتالي مع عبادة الله وحده لا شريك له من خلال محاولة عدم عصيانه وارتكاب أقل ما يمكن من الذنوب عسانا ننجح في هذا الامتحان ونلج الجنة خالدين فيها أبدا كما وعدنا الله جلا جلاله. فكيف تعاملنا مع هذه الوضعية؟
بطبيعة الحال، ووفقا لما أسلفنا الذكر، فإن مهمتنا عسيرة في هذه المدة الوجيزة (الحياة)، لذلك ترى فيلقا منا كما قال الله تعالى في سورة الأعراف (اية 51)” الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بأياتنا يجحدون”، تجلبهم الحياة الدنيا وتغرهم لينسوا الاخرة الدائمة، فيخسرونها خسرانا عظيما وإن ربحوا هذه الدنيا الزائلة (وهناك من يخسر الدنيا والآخرة معا).
وهناك فيلق آخر” الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار” (آل عمران 191)، و ” لمن خاف مقام ربه جنتان” (الرحمان 46)،و “المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض”.، وغيرها من الآيات الدالة على الفائزين بالدارين وهم من يخافون الله ويسعون إلى مرضاته عبر مرضاة الناس و الإبتعاد عن السيئات و الشرور في الأقوال والأفعال قدر الإمكان، ولا يتوفر هذا بغير العبادة الخالصة والتقيد بتعاليم الإسلام وقواعده السمحة التي تسهل علينا جميعا الاستمرار والقيام بواجباتنا على أكمل وجه متى عزمنا ووثقنا في الله وايقنا باليوم الاخر وتوكلنا على الله.
وبالتالي، فيمكن القول أن الله جل جلاله، مالك الملك ذو الجلال والإكرام خلق البشر وميزهم بالعقل عن بقية المخلوقات، وجعل لهم مهمة في الأرض يقومون بها في فترة وجيزة بين الولادة والممات تحت أنظاره وبمراقبة الملائكة والشيطان (لعنه الله) الذي يسعي بكل ما أوتي من قوة لعرقلة مسيرة هذا العبد وثنيه عن العبادة الحق وطاعة الرحمان طاعة خالصة، و” انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون” (النحل99، 100)، مهمة سيجزي عليها بالقبول أو الرفض، وبالتالي سيلقي الجنة أو النار دار مقام وخلد.
فلماذا لا نخشى الله و نهابه – فئة منا- ونخاف عذابه وعقابه إن نحن لم ننجح في امتحاننا الدنوي ولم نقم بواجباتنا على أكمل وجه؟ لماذا لا نهرع إلى الطاعة والتمسك بالدين وما يحتويه من قواعد وشروط وتعليمات تيسر لنا الحياة وتسهل علينا الفوز في الآخرة بدل التعلق بالدنيا الفانية وبهرجها الخادع الذي لن يجلب لنا غير الوبال والشؤم وسوء المنقلب؟
فنحن فعلا في امتحان متواصل مادمنا فوق الأرض، أعطانا الله عقلا وفكرا يميز بين الطيب والخبيث، ودينا يسهل علينا ما صعب، لذا، فإنه من واجبنا الاخذ بالاسباب والتفكير في الغد تفكيرا جديا دون ان ننسى نصيبنا من الدنيا طبعا وفق المسموح به تنفيذا لقول التوحيدي ” الأخذ من كل شيء بطرف”.