ما معنى أن تكون حرا؟
مصطفى لغتيري
بفعل الأشواط الكبيرة التي قطعها الإنسان في الحضارة والتمدن أصبحت لفظة الحرية من الألفاظ الشائعة والأكثر تداولا في قاموس الاستعمال الرسمي والشعبي” الأهلي”، حتى وإن كان هذا التداول خاليا من المعنى في كثير من الأحيان، هدفه فقط الدعاية الإيديولوجية الجوفاء، التي لا تنطلي حيلتها على جميع الناس، بل يقبلون بها بسبب الإكراه بشتى أنواعه، وتتساوى في ذلك جل الاتجاهات الثقافية والسياسية والدينية، فحتى تلك الاتجاهات التي تشتهر بعدائها الواضح لقيمة الحرية تجتهد في صوغ خطاب ديماغوجي دعائي يمجد الحرية، مقدما نفسه للعالم كمناصر لها ومنافح عنها.
ورغم هذه الخطابات المكشوفة، والتي قد تذهب إلى حد اعتبار بعض منتجيها مصدرا للحرية فكرا وممارسة، فلا أحد تقريبا يجادل في أن مفهوم الحرية لم يتبلور إلا مع ظهور فكر الأنوار إلى الوجود وانتشاره انطلاقا من أوربا إلى باقي بلدان العالم خلال القرن الثامن عشر وما بعده، لذا فأي زعم يناقض هذا الطرح سيجد نفسه عاجزا عن تقديم الأدلة والبراهين القوية التي تصمد أمام التمحيص، فلا يمكن مثلا أن ندعي بعين قريرة ونفس مطمئنة أن الأديان تدعو إلى الحرية كما يروج لذلك الخطاب الممجد للفكر الديني، في الوقت الذي كانت فيه ظاهرة الرق في أوجها ومنتشرة على نطاق واسع حتى في الأوساط المتدينة، بل هناك نصوص دينية تنظم بيع البشر وكيفية التعامل مع العبيد والإماء و مقارنتهم ب”الأحرار” و”الحرائر”، فنجد أنفسنا –نتيجة لذلك- أمام فئتين مختلفتين من البشر، تختلفان حتى في الواجبات الدينية تجاه الله. جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة “عور” ما يلي: العورات : جمع عورة، وهي كل ما يستحيا منه إذا ظهر، وهي من الرجل ما بين السرة والركبة، ومن المرأة الحرة جميع جسدها إلا الوجه واليدين والكوعين، وفي أخمصها خلاف، ومن الأمة مثل الرجل” ما يستنتج من هذا النص أن الأمة سلبت أنوثتها فأضحت هي والرجل سواء، فقط لأنها أمة.
كما لا يمكن للأنظمة الشمولية العسكرية والدينية أن تزعم تبنيها للحرية، ببساطة لأنها تخرق أهم مبدأ في هذا المجال ويتعلق الأمر بحرية الاختيار، وبالمثل لا يمكن كذلك للأنظمة الديكتاتورية التي ترتكز على حكم الفرد أو القبيلة أو العائلة أو الحزب أو الطبقة أن تزعم تبنيها للحرية.
وما ينطبق على الأنظمة يصدق على الأفراد مع مراعاة الفارق طبعا، ولهذا يمكن القول إن الشخص يكون حرا حين تتوفر له حرية الاختيار بما فيها حرية المعتقد.
وبناء على ذلك، أن تكون حرا معناه أن لا تكون ملزما بالإكراه أو بغيره باتباع عقيدة ما دون أن تكون قد استعملت فيها فكرك بعمق، وتوصلت بعقلك وجهدك الفكري الشخصي إلى تبني هذه العقيدة، لأنها تنسجم مع تصورك لنفسك وللعالم من حولك، وتخدم مصالحك .
أن تكون حرا معناه أن تقبل أن تكون الحرية معيارا في تعاطيك مع جميع المواضيع، ولا تتعامل معها بمكيالين أو بشكل تجزيئي، لأن هذا النوع من التعامل هو بالتأكيد يسيء إليك قبل أن يسيء إليها أقصد الحرية.
أن تكون حرا معناه أن تتبنى حرية التعبير وتدافع عنها، حتى وإن كان الرأي الآخر مخالفا لرأيك ولمعتقدك ومصالحك.
أن تكون حرا معناه أن تؤمن بحقوق الأقليات الثقافية والاقتصادية والسياسية.
أن تكون حرا معناه أن تمتلك الجرأة على التعبير عن رأيك المخالف لما هو سائد في جميع ما يتعلق بحياتك الخاصة والعامة دون خوف أو تهيب.