القدرة على التوظيف سمة من سمات الإبداع
دراسة تفصيلية
بقلم الأديب المصري / محمد البنا
لنص * إلى حيث لا عنوان *
للأديبة السورية / ياسمين الشامي
………………. .
النص
“إلى حيث لا عنوان”
“”””””””””””””””””””””
قبل أن تُوارى إلى مثواك الأول
تعال أحدثك عن أولادنا
الذين أنجبهم الغياب من بعدك
أما كبيرهم…
لا، لا، سأبدأ بحديثة الولادة
(ولدت بعد عمليات لا تعد ولا تحصى
من إجهاضات مبكرة ومتكررة للابتسامة)
وحيدتي…الدمعة
يشبهونها بملامحي عندما كنت أنبض بكَ
رقيقة الذرف،
بريئة من كل ذنب،
تكاد تفصح عن اسمك
لكل من يحاول لمسها
الشكر كل الشكر
أنها تعلمت الجريان قبل النطق.
أما أوسطهم…
(الكبرياء)
وما أدراك ما الكبرياء!
هل سمعت عن عقدة الوسط؟
يتقلّد إكسسوارات القوة في عنقه
ويحاول أن يفرد عضلاته
عندما تينع سنابل الفقد
وشم على صدره نزف الخفاء
ولا يقبل لومة غائب ولا شتيمة حاضر
وهو الآن أكبر من مثواك الأول بمثوى.
في العودة إلى أكبرهم…
(العناد)
آه، وألف آه
كل ليلة يكبر ألف مسافة
أرهقني… استنزف بقاياي
وكدت أتبرأ منه لولا أنه
دائما ما يذكرني بك
يغامر بي مغامرات مهلكة
دفعت ومازلت أدفع له ،(بدلا عنك)
ماتبقى من العمر مدا وجزرا.
لحظة!
لحظة، قبل أن تجف الحقائق
سأعترف لك بسر:
أخبرت أيتامكَ
أنكَ تراهم، وترعاهم على بعد حرف…لتهدأ سريرتهم
ويغشى الصبر ظلهم
و مازالوا ينتظرونك على عتبة الفجر لتأتي لهم بأعذارٍ جديدة… كلا على شاكلته.
وأخيرا…. وآخرا
النسيان كل النسيان لكَ.
ياسمين الشامي..سوريا في ٢ يونيه( حزيران) ٢٠٢٢
…………………
القراءة
وجع الفقد وقسوة الغياب ووحشة الوحدة…ثلاثة عناصر مجتمعة شكلوا معا بنية النص، ومن ثم امتزج البوح الذاتي في صيغة ضمير المخاطب للا موجود، ليضيف الإطار الشجين التراجيدي مصورًا مشهدًا يكتنفه الليل بستارته السوداء، وتلمع فيه الدموع كنجمات ليلية تناثرت بين ارض وسماء، كلما حاولت الصعود جذبها وجع الواقع..لينتهي النص بإطلالة خجلى في محاولة الوعي كسر كبرياء وعناد اللاوعي..متوهمة أنه آت لا محالة، متذرعة بوهم آخر أنه رغم غيابه يفكر فيها مثلما هى لا تنساه، وفي تخريج ضعيف للدلالة ( الرعاية ) اتهام له أنه سبب كل هذا ( الدموع/ الكبرياء/ العناد) وإلقاء تبعاتهم على كاهله، وتحد مبطن ..أنه عائد عائد ندما وأسفا..
يبقى نقطة أخيرة..لم المجاهرة بمسميات الأشياء ( الدمعة ) وقد ورد بعدها ما يوحي بها ويشي ( رقيقة الذرف)، والكبرياء وقد ورد بعدها ما يوحي به (القوة، فرد العضلات، لا يقبل لومة لائم ولا شتيمة حاضر- مع تحفظي الشديد على لفظة ( شتيمة) فهى نشاز نشاز نشاز)، وكذلك العناد ايجاءً اولى من المباشرة.
يحسب للمبدعة قدرتها الهائلة على توظيف الخيال الإبداعي لخدمة فكرة النص، فمن المعلوم أن تبعات الفراق متعددة ومنها السهد والدموع واجترار الذكريات واحلام اليقظة ومناجاة الغائب عن المكان الحاضر في كل الأشياء المحيطة بنا، ومنها الكبرياء ومجاهدة النفس والعند، وقد اختارت مبدعتنا ثلاثة منها ( الدموع/ الكيرياء/ العناد) كمتكآت رئيسة لبنية النص تضافرت بمهارة مع عناصره الثلاثة (وجع الفقد وقسوة الغياب ووحشة الوحدة) ليصنعوا بناءً هندسيًا مكتملا، تجلى لناظريه طللًا في لحظة مناجاة ليلية، حيث يسيطر الصمت ويحكم قبضته على ظاهر النص، بينما باطنه نارٌ متأججة يموج لهيبها فوق جمرات قلبٍ مكلوم، ينزف وجعا ويرتجف وحشة وتوق.
ومن ثم تباغتنا الكاتبة بمخيلة أخرى( الأبناء) تزدوج مع الأولى ( الدمعة، الكبرياء، العناد) وينصهروا في بوتقة وجد أجازتها بلجوئها لضمير المخاطب راويًا للمتن السردي، ما أضاف للقطعة الأدبية رونقًا زاهيا، ودفئا ملموسا، يشعر به المتلقي تماما وكأنه الغائب المخاطب به.
ثلاثة أعمدة وثلاثة عناصر وثلاثة أبناء، ومناجية ومناجى هم الصورة الكلية للنص، وذلك لعمري صعب التمكن منه، بل وصعب جدًا، ولكنها – ولدهشتي- نجحت وتمكنت أيما تمكن، فمباركٌ لك إجادتك غبطةً لا حسدا.
انظروا معي كيفية توفيقها في إظهار حالة التردد والأرتباك في بدايات النص (اما كبيرهم..لا لا ..سأبدأ بحديثة الولادة) ياتي ذلك مباشرة بعد مدخل قوي يشي بعزيمة صلبة وتهديد مباشر ( قبل أن توارى إلى مثواك الأول ) كناية عن موته في داخلها ونسيانه للأبد، قوة ظاهرة ظاهرية أتبعها انهيار شبه كامل، توسطه لوم خفي له ( أحدثك عن أولادنا الذين أنجبهم الغياب من بعدك )، ومن ثم تمضي بروية وهدوء في مناجاته، لكنه هدوء المنهزم وقنوطه، وروية المريد خفية التأثير فيمن يناجيه لعل وعسى، وفي كليهما الهدوء والروية لا يكف سريان نهرين من دموع تغرق المشهد.
صور بلاغية متقنة وفريدة ..على سبيل المثال لا الحصر( انجبهم الغياب، تينع سنابل الفقد، نزف الخفاء،..،..)
عودة للعنوان ( إلى حيث لا عنوان) ارى عدم دقته في التعبير عن مضمون النص، واعتقد..وأقول أعتقد ان الكاتبة قصدت منه ( إلى من لا عنوان له )..تحياتي
محمد البنا.. مصر في ٢ يونيه ٢٠٢٢
Discussion about this post