مدخلٌ آخر يؤدي للمخزن
قراءة فلسفية للنص
بقلم الأستاذة كنانة عيسى
Kinana Eissaa
………..
لقد عودنا الأستاذ محمد البنا في رؤيته القصصية، تبني أبعاد فلسفية وجدلية، هدفها رصد الواقع الإنساني بحداثة، وخلق بعد ثقافي متجدد بديناميكية، وخروج عن السرب الأدبي. وفي هذا النص (المخزن) ندرك كقراء عاجلًا أم آجلًا، أننا دمى مارونيت، مشدودة بلهفة لحبكة مستحيلة، فالمؤلف خلق ظاهرة أدبية على شكل نص، استوفى عناصر سرده وبنيته التكوينية، واكتملت هيئة أبطاله ببراعة شديدة، ولغة متماسكة بعيدة عن انتقائية متكلفة، وفي رؤية شديدة التكثيف وشيقة المحتوى.
أبطاله ( العم عبده) بائع الشاي البسيط، بأخاديد وجهه المتعب، الذي يسعى قوتًا لرزقه في القطار، يسعده بيع الشاي للمسافرين.
ولدينا الراوي الذي يطلّ بزهو وكبرياء في المشهد، مشيرًا بأصابعه كِبرًا لبائع الشاي دون التلفظ بما يريد.
حتى هنا العلاقة الإنسانية موءودة، فالقارئ في حالة من التخبط.. الراوي صاحب المشهد يشير لبائع الشاي باسمه(العم عبده)، ولكنه ينكر معرفته الوثيقة به، فهما غريبين تجمعهما لحظة شراء كوب من الشاي داخل عربة قطار.
وتأتي المفاجأة على شكل فجوة زمنية، تمنع تحقق تلك اللحظة.
مازال القارئ مأخوذًا بتتابع الأحداث، وعاجزًا عن إدراكها، فيظهر له أن الشخصيتين الأساسيتين في النص السردي، ببراعة تحملان ألفة ومودة سببها العِشرة والمعرفة الطويلة. تبدأ ذروة الحبكة المختزلةبالتجلي، لأن الشخصيتين متآلفتان الآن.. ( ألقى بظلال الألفة بيننا)، ولكنهما عاجزتان عن المضي في عيش اللحظة التالية، وتأتي صدمة الوعي للقارئ، فالعالم المصاغ هنا ليس ملموسًا!!..بل هو برزخ فاصل يحبس الشخوص المتورطة في إطار زمني متكرر، ويجمد الحدث الناقص بموت تراجيدي مؤلم.
ربط الكاتب الرمز الغير المباشر بمرونة اللغة، من حيث التركيز على استخدام الأفعال المتتالية ببراعة في النص، فالفعل الأول والنهائي في النص هو (مايزال، ما تزال)،
والحركة الزمنية تظهر باستخدام أفعال(ماضية ومضارعة وناقصة) متتابعة، هدفها تصوير مشهدٍ قصيرٍ جدًا، بعيدا عن ترهل المبالغة في الوصف والتقرير. .
في عربة واحدة مهشمة من أثر التفجير تنتصب تلك الحقيقة المحورية التي أرادها الكاتب لنا، وهي أن الموت وحده من يلغي مظاهر الحياة الزائفة ومفهوم الطبقية المجتمعية، و نمطية الأسلوب الإنساني المتكررة مثل تضخم الأنا والفوقية، وحده الموت سواء كان جسديًا أم روحيًا يعري نفوسنا الحقيقية من غرورها وصلفها، فالعم عبده أصبح صديقًا للراوي في الحد الفاصل للحياة في عالمين متناقضين يفصلهما برزخ مجهول، تتكرر فيه الأحداث للأبد، حيث يصبح فيه الغرباء أعز الأصدقاء.
بورك المداد ودام إبداع الكاتب المذهل.
كنانة عيسى…١٧ أغسطس ٢٠٢٠
……………
النص
…….
قصة للأستاذ Mohamed Elbanna،
وتصميم الأستاذة م.زنوبيا الأسدي
————————————–
المخـــزن
لا يزال عم عبده يحمل بيده براد الماء المغلي، وعلى كتفه صينيةً معدنية تحتضن عددًا من الأكواب البلاستيكية، يقطع المسافة بين مدخل العربة ومقعدي في سرعةٍ خاطفة، استوقفه بإشارةٍ من يدي، ألمح تنهيدة ارتياح تحفر طريقها في آخاديد وجهه، وهو يزيح بكتفه الآخر الرجل الذي يجاوره، ويُفسحُ لصينيته مكانًا
– سكرك إيه يا بيه ؟
لم أكلف نفسي عناء تحريك شفتيّ، وأكتفيت بإنفراجةٍ بين أصبعيّ .
إلى هنا ينتهى المشهد، ليعاد مراتٍ ومرات، فلا هو صب الماء الساخن في الكوب، ولا أنا تمكنت من مد يدي لأتناوله، وقتئذ بالطبع لم أكن أعرف اسمه، فما كان إلا بائعًا للشاي، يدلف للقطار عندما يتوقف لدقائق في محطة بني سويف، ويغادره عندما يتوقف لدقيقتين في محطة الواسطى، وهو أيضًا لم يكن يعرفني، بل ولم يكن ليهتم بمعرفتي، فما أنا في معتقده البسيط إلا زبونًا أرسله الله له بما قدّره من رزق، ولكن تلازمنا الطويل نسبيًا في تأدية ذلك المشهد، ألقى بظلال الألفة بيننا، حاول كثيرًا أن يملأ الكوب ، وحاولت جاهدًا أن أرفع يدي ، ودائمًا نفشل لنبدأ من جديد، بينما الرجل الذي يجاوره لا يزال يجاوره، وآخرون جالسون في مقاعدهم كأنهم موتى، والعربة المهشمة من أثر الإنفجار، لا تزال مُلقاة في مخزنٍ للنفايات .
Discussion about this post