(لا شيء يثبتُ أنني حيْ …)
بقلم الشاعر عمر دغرير :
لا شيء يثبتُ أنني حيْ,
وهذا الوجه الذي يعرفني به الأصحاب والأعداءْ ,
ضاع مني في متاهاتِ الشوارع والأحياءْ…
وجهي ما عادَ يذكّرني بي ,
وباتَ يطوي العمرَ طيْ…
ويبحثُ عنْ مدينة سكانها أغلبهمْ سراقْ…
أمواتها أحياءْ ,
في زمن يغمره النفاقْ…
لا شيء يثبتُ أنني حيْ…
فلا دمع في مداخل الأحداقْ…
ولا دماء تجري في العروقْ…
ولا نفس يصّاعدُ منْ شفاه
عطشى للقبل والعناقْ….
لا شيء يثبتُ أنني حيْ …
وفي ذاكرتي مقبرة سكانها
منْ حبرٍ وأوراقْ…
ينتظرون من يرفع الغبار
عن أجسادهمْ…
منْ يكشفُ ما علق
بجلدهم النديّ
منْ شعلة الأشواقْ…
لا شيء يثبتُ أنني حيْ…
منْ قبره
تسلل إمرؤ القيس
بصوته الجَهوري,
مرددا أغنية تعطرتْ بالحبّ,
وبالشذى والقبلِ…
وامتزج الشوقُ فيها بالأملِ :
(… أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ,
وإنْ كنت قدْ أزمعت صرمي فأجملي.
وإنْ تكُ قدْ ساءتك مني خليقةٌ ,
فسلي ثيابي منْ ثيابك تنسلِ …).
ويغيب الصوت ليبقى صداه
على حافة القبر يفرغ الدمع منَ المقلِ …
لاشيء يثبتُ أنني حيْ…
ومن تحت ركام المجلدات الندي,
يُخرجُ الجاحظ يدهُ المرهقة
ليصافح يدي ,
وبالأخرى يرفع (حيوانه )
ويلقي به منْ علِي…
ويقول : لكَ هذا فقدْ تشتهيه ,
كما اشتهاه منْ قبلك
إبني وأمّي وأبِي…
وقدْ يشتهيه الفاتكُ بالسيف,
كما يشتهيه الناسكُ بالصليب وباللحي…
وقد يشتهيه اللاعب ذو اللهو ,
كما يشتهيه المُجدّ ذو الحزمِ الجري…
وقدْ يشتهيه الغَفلُ الرفيعُ ,
كما يشتهيه الأريبُ المُسيءْ…
وقدْ يشتهيه البليدُ الغبيّ ,
كما يشتهيه الفطنُ الذكي…
لاشيء يثبتُ أنني حيْ…
وهذا وجهي
وأنا أشكّ بأنه لي ,
يحاور قبرا خربتهُ الشقوقْ …
وغاب عن شاهده البريقْ…
وينادي بصوت لم يسمعه غيري
وأظنّه ضاع وسط الطريقْ …
يا أبا العلاءْ,
دعكَ منَ الزهْدِ,
وتوقفْ عنِ العقوقْ …
واكتبْ على الشاهد :
أبي كانَ للحياة وفِي…
ووحْدي أنا الجاني
وانا منْ أشعل في البلادِ الحريقْ…
لا شيء يثبتُ أنني حيْ…
والمعرّي يقارعني بالدليلْ,
ويؤكد أنّ وجهي
ما عاد يشبهني ,
ولا بدّ أنْ أبحثَ عنْ بديلْ…
وفي الركن شيخ
يكتب على ضوء فتيلْ…
قصيدة تفضحُ قلبي العليلْ …
وتعلن غرقي المميتَ ,
وأنا المهووسُ بالأزلِ …
أردّد معي ,
وبصوتي الشجي :
(…وَالهَجرُ أَقتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ ,
أَنا الغَريقُ فَما خَوفي مِنَ البَلَلِ …
ما بالُ كُلِّ فُؤادٍ في عَشيرَتِها ,
بِهِ الَّذي بي وَما بي غَيرُ مُنتَقِلِ…).
لا شيء يثبتُ أنني حيْ…
ودرويش خارج قبره,
يصرخ موجوعا
بالحزن وبالألم :
سجّلْ أنا عربي …
ويقرأ في وجهي :
أنا العربي ,
أضعتُ العروبة
في المجلس الأممي…
لاشيء يثبت أنني حيْ …
وكلّ الموتى أحياء
في بلد سكانه أموات
يحرسهم غبي …
Discussion about this post