قصة قصيرة
بطاقة عبور
لمحته على ناصية الشارع من بعيد، كنت أمر به كل يوم تقريبا”؛ وأنا ذاهبٌ إلى عملي وأثناء عودتي.
تآلفت معه وأنا ألقي عليه السلام، وأحيانا أشتري منه بعضا” من حوائج البيت، منذ كانت القطعة بعشر (ليرات) وغدت مئة؛ ثم صارت ألفا”.
منبتُهُ الطيب، وهذا اللقاء الدائم الهارب إلى القلب، وبراعته في ترتيب وعرض بضاعته والتغني بها واستقبال زبائنه بمبسمه الحزين ، وهذا اللون الوردي في سحنته وشعره المذهب، وتلك الحركة الدؤوبة طوال فترة عمله، تفرض الإعجاب والثناء عليه من كل رواده.
هذا الصباح مررت عليه وألقيت تحيتي المعتادة كان رده باهتا” يكتنفه الحزن ويخفي نهرا” من بكاء وبعضٌا” من تحد
_ لمَ غيرت مكان بسطتك؟ ..الشارع الفرعي يغمرك !.. اليوم لستَ على ما يرام ..؟!
_ لاعليك أستاذي سوف ألقنه درسا” لن ينساه أبدا” ، سوف أجعله يتكلم مع نفسه، ويمقت اليوم الذي جاء به إلى هذه الدنيا ..! سوف أحصل عليها قريبا” جدا”!.
تركته يزبد ويرعد وتابعت مسيري إلى عملي؛ مستغربا” من كلامه المبهم، والخالي من أي توضيح.
مثل هؤلاء الأشخاص يهبطون سقف قلبي ويؤثرون بي! لا أستطيع مغادرة معاناتهم اليومية لكسب الرزق.
كان فهد بعمر الألم الذي عاشه في حياته، منذ أن فقد والده في الحرب وجد نفسه أباً لأسرةٍ كبيرة، عليه الوقوف أمام كل التحديات في سبيل عائلته، وهو أكبر من عمر الحلم بنبضة واحدة فقط، زوجه والده قبيل وفاة ليفرح بأحفاده فهو ابنه الوحيد وأورثه صنعته التي أحبها، ووضع عليها بعض البصمات الشبابية وقد أتت أُكُلها، وغدت بسطته مضرب المثل، فلم يخلُ أمره من حسد جواره؛ الذين وشوا عليه للسلطات، التي أبعدته إلى زاوية بعيدة عن السوق الرئيسي .
مررت عليه عند عودتي من عملي، كان السوق مكتظا بالناس وكانت بسطته المتطرفة تشكو الوحدة، وهو لم يزل يدور حول بضاعته، يلمع هذه من غبار الشارع، ويحاول إضفاء بعض من الرونق على العرض، ويسترسل:
_ القطعة بألف .. القطعة بألف .. القطعه بألف ..
عندما شاهدني؛ فار تنور حزنه واقترب مني وهو يحمل كل تناهيد قلبه، وتنفر من بين أهدابه قطرات من دمع ونظرة التحدي هي وحدها تهبه الثبات:
_ انقطع رزقي والله يا أستاذي، اليوم عندي موعد معه، وسوف أحصل عليها لا محالة، حينها سوف أعرض بضاعتي في وسط الشارع وأتحدى الجميع ..!
انتظر وسوف ترى بعينك.
تابعت مسيري بعد أن تناولت بعض الأغراض وأبيت إلا أن أدفع ثمنها مضاعفاً، وأنا أغادر المكان متألما” في خلدي، وفي داخلي فضول لم يستطع مغادرتي أبدا”.
كنت أستغرب بيني وبين نفسي وأتساءل معها عن تلك الشريحة الاجتماعية، كيف تعيش تحديات وجودية فيما بينها، وكيف تغيرت أطيافها، وتحللت منها كل الأصباغ الثابتة، وغدا كل واحد منهم يحمل على كاهله أطناناً من الآلام والتعب، وأستغرب التناحر فيما بينهم، فعندما لا يجمعنا هم، ولا تؤلّف النكبات بين قلوبنا، ولا تستعطفنا المصائب؛ فعلى دنيانا السلام ..
كانت الشمس هذا اليوم تعانق أهداب الصباح وتضفي على تلك الشوارع التي يُتِّمت وغدت ثكلى بعضا” من أمل، وأنا كنت منهمكا” مع ذاتي أقطع شارعا” وأطوي رصيفا” وأتأمل الطريق الخالي من السيارات والمكتظ هذه الأيام بالعجلات وشتات من الأرجل المنهمكة تلتهم أحذيتها الممحوة الأرصفة لوصول أصحابها، كل منهم إلى ضالته، حاولت تخطي بسطة فهد، الذي كان مشغولا” أيضا في رصف بضاعته بشكل دقيق وملفت. لكني عرجت إليه ملقيا عليه تحية الصباح والاطمئنان على ضالته ..
_ اليوم مساء سوف أحصل عليها إن شاء الله أستاذي ، البارحة دعاني إلى المطعم، كان بصحبة صديق له وأكد لي ذلك، وأنا بدوري دفعت الفاتورة عربون رضا، وعدت أدراجي إلى بيتي سيرا” على الأقدام فارغ الجيوب، كنت بحاجة للمشي، أتأمل وفي نفس الوقت أداعب تعب الوقوف، كان المبلغ كبيرا” جدا” تألم خاطري وأنا أدفعه، ولم أشرب منه قطرة ماء، مثلي لا يصح لهم الجلوس مع الكبار، نحن ندفع فقط!
لكنها تُعوَّض! وسوف ترى غدا” بأم عينك كيف سوف أعوضها! فكل شيء يهون عندما أحصل عليها!.
حاولت التملص منه لأعيد ترتيب عجالتي لكنه أردف ..
_ منذ أيام طلب مني طعاما له ولأصدقائه، كان قد دعاهم عنده، وأنا قمت بكل الواجب وعلى أكمل وجه، لقد ابتسم لي و ربت على محملي، هو لا يأخذ مالا” حراما” لن أظلمه! فقط بعض الهدايا ليست قيّمة جدا” لكنها باهظة الثمن، وأنا لا مشكلة عندي وفي النهاية سوف أحصل كما وعدني على ما طلبت !..
باغته بالانصراف عنه وهو يتكلم لكن احمرار خجلي أوقفني وتابع ..
_ تصور منذ فترة طلب مني جلب زوجتي لتنظيف بيته وترتيبه، لم أستطع رفض طلبه فهو شخصية بارزة مخيفة، ذهبنا أنا وزوجتي وقمنا بكل الترتيبات برحابة صدر، وقتها طلب مني الذهاب لجلب علبة دخان يزعم أنه مقطوع من السجائر!! لهدف ما … ! والحمد لله كان في جيبي علبة مختومة أعطيته إياها وأكملنا ما تبقى من ترتيبات ورحلنا، دون وداع .
أعرف أن تلك الأموال الهاربة مني تستنزفني وإخواني وأنا أحق بها منه.. أحتاج حذاء، وأخي الصغير تأتيه نوبة سعال ديكي، ويحتاج طبيبا” ودواء وأنا أؤجل الأمر .
لكن،
أنا فرح جدا” اليوم مساء سوف أحصل عليها كما وعدني، قالها لي بدبلوماسية عندها تحل كل مشاكلي ….
………………….
تركته وأنا أستعجل مرة أخرى مرادفاته وهو يثب مرتبكا” ويذوب مع ذاته ويرتجي وجه حلم عله يستلقي على بساط الصبر، ويتكلم مع نفسه ويرسم في مخيلته صورا” وردية أتمنى له تحقيقها فقد غدا بالنسبة لي معادلةً كم تمنيت حلها وفك طلاسم شفرتها الباهتة!
يومٌ واحدٌ فقط يقف حائلا” لكشف الستار عن كواليس ذاك المسرح.
ابتعدتُ عن بسطته؛ وهو ما برح يردد بصوت عال ..
_ القطعة ب ألف وبكرا ببلاش ..
في اليوم التالي الذي كان مفصليا” بالنسبة لي نمت ليلته متأملا” غده ولا أعرف لماذا شغلتني قصة هذا الشاب، رغم أنها وبفرادتها تشبه مئات القصص التي تحمل في طياتها عشرات الأسئلة، ويندى لها جبين الثلج.
غدا” يوم عطلة بالنسبة لي حاولت إشغال نفسي عن موضوع فهد وعدم التفكير به، وفعلا تغلبت على نفسي، وقمت ببعض
ببعض الأعمال في بيتي لينتهي النهار ونسيت أن يوم غدٍ عطلة أيضا”، وليس لي طريق إلى السوق، لكني في اليوم التالي حملت معي فضولي وكل التساؤلات بانتظار فك عراها، ومعرفة حقيقة الأمر .
كان فهد في هذه اللحظة شخصاً آخرَ! يحوم حول بضاعته في الشارع الرئيسي مثل الصقر، كنت أشاهده من بعيد وهو يعيش فصل خامس من السعادة، وأسمع صوته الأجش يختبئ بين الصيوان ويخترق كل الأصوات، وتصلني كل موجات نداءاته..
_ القطعة ب ألفين .. القطعة بألفين .. القطعة بألفين !
كان يرتدي سترة عسكرية في هذا القيظ، وبنطاله الجينز وبوطا” عسكريا” أكبر من مقاس قدمه، والدنيا لا تتسع لعنجهيته وكلما كنت أقترب من بسطته التي كانت تضيق لي من الزحام عليه، وأنا أنظر بعين العَجَب إلى المشترين الذين يضحكون معه، ويمازحونه، ويشترون منه بضاعته، بالثمن الذي طلبه دون تأفف ولا مراجعة .
ومع وصولي كانت دورية الشرطة هي الأسبق مني! راح رجالُها يحاولون إبعاد الناس عنه، وجروه إلى السيارة والبعض الآخر أخذ يحمل بضاعته المستباحة في شاحنة، وهو يتمنّع متحديا”، و أخذ يقاومهم بكل ثبات، ويخرج لهم بطاقته الخضراء التي حصل عليها! وهو يتعالى ويكابر منتفضا” عليهم ويتفاخر بالشخص الواصل (سنده) ويعرّف عنه! ولكن للأسف دون جدوى! وحلمه ضل الطريق ..
صاح أحدهم ساخرا:
_ بطاقتك أيها المغفل صالحة فقط ليوم واحد، البارحة انتهت .. جارك من فسد عليك .
المحامي
محمد حسن
سوريه.حلب
4/2/2023
Discussion about this post